اعتمدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة عند صياغة برامجها المالية والاقتصادية خطة للحصول على موارد مالية ومساعدات من عدة جهات خاصة من الدول العربية، خصوصا على مستوى القمم العربية التي أصدرت قرارات واضحة بدعمها المالي للبنان لمساعدته على الصمود، واعادة بناء البنيةالتحتية المدمرة واعادة هيكلة اقتصاده. وقد بلغت أحجام المساعدة المقررة في المؤتمرات العربية ما يقارب 3 مليارات دولار، أما الودائع المصرفية العربية في مصرف لبنان فتبلغ 1.5 مليار دولار.
لكن الذي حصل عمليا هو تقلص للمساعدات العربية الى مستوى تقديم بعض المساعدات المباشرة من قبل السعودية والكويت والامارات العربية المتحدة، وبعض الصناديق العربية والاسلامية، فضلا عن ايداعات مالية لدعم قدرة مصرف لبنان على مواجهة الضغوط التي تتعرض لها سياسته الخاصة بالاستقرار النقدي، بينما فشل مؤتمر الدول المانحة على خلفية الشروط السياسية الموضوعة والشروط المضادة. أما مؤتمرات باريس - 1 و2 و3 فكان نجاحها نسبيا على قاعدة السعي للحفاظ على الثقة الدولية المالية بلبنان، فيما النتائج مشروطة بقدرة الحكومة على انجاز اصلاحاتها الاقتصادية والمالية.
هذا التفاوت ما بين حجم المساعدات المقررة والمنتظرة، وما حصل عليه لبنان بالواقع، فضلا عن أساليب التنفيذ وتوقيته وأوجهه، أدخل الحكومات اللبنانية باشكالات مالية، وبخلل في حساباتها، دفعها للاعتماد على الدين العام كمورد مالي أساسي، باعتباره الفرصة الوحيدة المتاحة لسد العجز المتفاقم في المالية العامة، فارتفع بذلك حجم الدين العام بوتائر متصاعدة بحيث تضاعف مرات عدة خلال سنوات معدودة.
وبالفعل يقارب الدين العام اللبناني حاليا 41 مليار دولار أي ما نسبته 175% من الناتج المحلي، ومرشح للارتفاع قبل نهاية السنة الحالية. ونتيجة لذلك يواجه لبنان مجموعة تحديات صعبة أبرزها:
- حجم الدين العام والعجز عن تحديد نهائي للسقف الذي يمكن ان يبلغه، وارتفاع نفقات خدمة الدين العام بحيث قاربت مجمل الواردات المالية للدولة ومرشحة للازدياد بفعل تضخم كتلة الدين العام من وجهة وارتفاع مستويات ونسبة الفوائد المدفوعة من جهة أخرى (بلغت خدمة الدين حتى سبتمبر الفائت 3600 مليار ليرة. بزيادة نسبتها 13% وتعود الى عاملين: ارتفاع في خدمة الدين الداخلي بنحو 16% من جهة وارتفاع في خدمة الدين الخارجي بنحو 9% من جهةأخرى).
- اقتصاد يشكو من الركود بالرغم من بعض المؤشرات الايجابية التي حققها بعض القطاعات خلال الأشهر الأخيرة (تحقيق فائض في ميزان المدفوعات، ارتفاع مجموع ميزانية المصارف وارتفاع الودائع ومؤشر الربحية، تحسن فاتورة الاستيراد وفاتورة التصدير والواردات الجمركية، فضلا عن حركة مرفأ بيروت والمطار).
هذه التحديات فرضت نفسها على القطاع المصرفي الذي لعب ولا يزال الدور الأول والحاسم في تأمين الموارد المالية للدولة عن طريق: الاكتتاب بسندات الخزينة المحلية - تسويق السندات السيادية للحكومة في الأسواق المالية الخارجية (تجاوزت حصته أحيانا نسبة 75% من مجمل المبالغ المطلوبة) - ارتفاع مساهمته في حجم الدين العام لتبلغ حوالي 20.5 مليار دولار حتى يوليو الفائت (52.2% من اجمالي التسليفات المصرفية في لبنان)، فيما بلغت التسليفات للقطاع الخاص 20.7 مليار دولار. مع الاشارة الى ان حجم الموجودات المصرفية يوازي 80 مليار دولار (3.5 أضعاف حجم الاقتصاد الوطني)، فيما تبلغ السيولة الجاهزة لدى القطاع المصرفي 12 مليار دولار.
واستنادا الى الآلية المتبعة حتى الآن في تأمين مصادر الدين العام، وبالرجوع الى المؤشرات والمعطيات والطروحات المتداولة، والتي تتناول دور وموقع المصارف اللبنانية المرتقب في هذا الصدد، يبرز الرهان على دورين: الأول لمصرف لبنان الذي بادر الى استبدال سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي يحملها محفظته بسندات اليوروبوند بالعملات الأجنبية التي تحملها الدولة، حيث يقوم بتسويق هذه السندات في الخارج ولدى المصارف. (اشارة هنا الى ان قيمة شهادات الايداع التي تحملها المصارف على المصرف المركزي تقدر بحوالي 4500 مليار ليرة. تم تحويل 1000 مليار ليرة الى سندات خزينة على الدولة بتعديل بسيط للفائدة من 11.3% الى 11.5%).
الثاني، القطاع المصرفي من خلال استمراره في عملية تأمين الموارد المالية لتغطية عجز المالية العامة، عن طريق الاستثمار في سندات الخزينة المختلفة.
ان الافراد في عمليات الاستدانة بالدولار او أي عملات أجنبية لاستبداله بأجزاء من الديون الداخلية بالليرة اللبنانية بهدف تخفيف أعباء الدين من خلال فارق الفوائد، لا يحقق تحولا حقيقيا في مسار الدين العام وتأثيراته الضاغطة على الموازنة والنشاط الاقتصادي ما لم يترافق مع خطوات أساسية لمعالجة المشكلة بحد ذاتها والمتمثلة بنمو أرقام الدين بشكل متواصل نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )