عندما بلغت مبيعات «كوداك» مليار دولار في عام ١٩٦٢، كانت توظف ٧٥ ألف موظف. عندما بلغت مبيعات «فيسبوك» مليار دولار في عام ٢٠١٠، كانت توظف ٦٣٠٠ موظف. وهذا هو تناقض التكنولوجيا، رغم الفوائد الكبيرة التي توفرها التكنولوجيا، إلا انها تقلل من عدد الوظائف المطلوبة. حيث نلاحظ وجود عدة ابتكارات جديدة باتت تستغني عن الحاجة الى العمالة مثل سيارات بلا سائق، ومحلات من غير صرافين، والعديد المعروف غيرها.
كما بين تقرير World Economic Forum الذي يشمل أكثر من ٣ ملايين موظف من ٣٧١ شركة حول العالم، ان ٤٢% من متطلبات العمل ستقوم بها التكنولوجيا في عام ٢٠٢٢، مقابل معدل ٢٩% في ٢٠١٨، وان ٥٠% من الشركات تتوقع انخفاض في عدد الموظفين في شركاتهم. وأضاف تقرير McKinsey ان المتوقع فقدان ٨٠٠ مليون وظيفة حول العالم بسبب التكنولوجيا في عام ٢٠٣٠. كما بين بنك إنجلترا أن ١٥ مليون وظيفه في إنجلترا سيتم استبدالها بالتكنولوجيا، مقابل ٨٠ مليون وظيفة في الولايات المتحدة.
وآثار التكنولوجيا لا تقتصر على انخفاض عدد العمالة المطلوبة فقط، بل إنها أيضا تؤدي الى الاحتياج الى نوع جديد من العمالة. أي أن الخبرات والمهارات والامكانات المطلوبة في المستقبل ستتغير بشكل كبير. على سبيل المثال، بين تقرير Future Jobs Report ان اكثر ٣ مهارات مطلوبة في عام ٢٠٢٢ هي: القدرة على حل مشاكل معقدة، التفكير التحليلي، والقدرة على الإبداع. واوضح التقرير ازدياد اهمية «الابداع» بعد ان كانت عاشر اكثر مهارة مطلوبة في عام ٢٠١٥. كما بين تقرير McKinsey ان إمكانات التعامل مع التكنولوجيا ستكون أكثر امكانية مطلوبة من الشركات بزيادة ٥٥% في عام ٢٠٣٠. كما بين تقرير Brookings أن نسبة التوظيف في وظائف تتطلب مهارات تكنولوجية عالية تضاعف ٣ مرات من ٤، ٨% من اجمالي التوظيف في ٢٠٠٢ الى ٢٣% في ٢٠١٦. كما بين التقرير ان ٣٠% من الوظائف الجديدة التي أنشأت منذ عام ٢٠١٠ تتطلب امكانات عالية في التعامل مع التكنولوجيا.
فجميع هذه الأدلة توضح أن العالم بات يتطور بسرعة لا نستطيع ان نتجاهلها، ما يستلزم تغييرا سريعا وجذريا في أساليب ومحاور التعليم الحالية، والعمل بشكل جدي على تطوير تعليم التكنولوجيا والابتكار. فالتعليم عنصر أساسي في تحقيق هدف الدولة في بناء «رأس مال بشري مبدع». وللتعليم دور أساسي في تغيير ثقافة المجتمع وتدريب وتطوير جيل جديد، يمتلك أفكارا ومهارات جديدة، ولديه امكانية ان ينشئ مشاريع تكنولوجيا جديدة. ورغم التطور في الدولة نحو تشجيع التكنولوجيا والابتكار وانشاء مؤسسات مثل مركز صباح الأحمد للموهبة والابداع، الا انه مازالت مساهمة التعليم، من حيث الأساليب والطرق ومضمون، متخلفة جدا مقارنة مع توجهات الدولة وطموحها نحو محور التكنولوجيا والابتكار.
وحتى يحقق التعليم الأهداف المنشودة، يجب الاستثمار في مؤسسات لها تأثير دائم. اما الاستثمار في ندوات وورش واستقطاب الخبراء من انحاء الدول لأيام محدودة، رغم أهميتها، فإن قيمتها عابرة.
على سبيل المثال، تقوم الولايات المتحدة وسنغافورة، واليابان وكوريا الجنوبية برسم خطة تعليمية شاملة حول الابتكار وتعليم التكنولوجيا ابتداء من المرحلة الابتدائية. كما اتجهت بعض الدول نحو انشاء جامعات ابتكار وتكنولوجيا مثل Singapore University of Technology and Innovation. ويكون هدف تلك الجامعات استقطاب المختصين من العلماء والباحثين بشكل دائم ودعمهم للبحث والابتكار فيما يحدده مكتب الرئيس من أولويات واحتياجات الدولة.
كما يجب استغلال الجامعات كحاضنات ومصدر أساسي لتشجيع انشاء مشاريع تكنولوجيا جديدة. ويعتبر إنشاء «صندوق الابتكار الجامعي» في سنغافورة من اهم التوجهات التي اتخذتها الحكومة لتحقيق رؤيتها في خلق بيئة ابتكار وتغيير ثقافة شبابها من حب الاستقرار والخوف من الفشل الى شغف الابتكار والمبادرة. يعمل الصندوق كجهة مستقلة ينظم تعليم التكنولوجيا والابتكار ويهدف الصندوق الى تطوير إنتاجية الجامعات المحلية وتحفيز الابتكار بها من خلال الاستثمار لدعم أعمال الجامعات المتعلقة بالابتكار والبحث مثل: بناء حاضنات في الجامعات، إرسال الطلبة للعمل في «سيليكون فالي» والتعلم من أفضل الجامعات، وانشاء ما يسمى «Technology Transfer Office» في حرم الجامعات.
إن بناء حاضنات بالقرب من الجامعات لها عدة مميزات، فتلك المساحات توفر فرصا للشباب والطلاب للابتكار في بيئة آمنة تخلوها تحديات والمخاوف التي تراود الشخص خارج الجامعة، كالإيجار. كما توفر هذه المساحات فرصا لاستغلال موارد الجامعة والخبرات المتنوعة الموجودة، وتوفير مكان يجمع المهتمين والمبدعين للتعارف وتبادل الافكار والتعاون.
كما ان «Technology Transfer Office» تعتبر مؤسسات مستقلة تعمل على الربط بين احتياجات الدولة والأبحاث في الجامعة وتعمل على تحويل الأبحاث والاختراعات الى مشاريع تجارية. ذلك لان التحدي الأكبر الذي يواجه الجامعات التعليمية هو تحويل دراساتها وابحاثها وتعليمها النظري الى مشاريع وابتكارات واقعية تساهم في الاقتصاد المحلي. لذلك، تعتمد الدول المتقدمة في ريادة الاعمال والابتكار الى خلق مؤسسات تعاون تربط بين احتياجات الدولة والأبحاث في الجامعة.
وقد حققت تلك المؤسسات نجاحا كبيرا، فعلى سبيل المثال، ٢٥% من المشاريع الجديدة في سنغافورة أنشئت في جامعة «National University of Singapore». اما في الولايات المتحدة فان «Technology Transfer Office» كانت وراء خلق ١١ ألف مشروع جديد وأكثر من ٤ ملايين وظيفة جديدة في الولايات المتحدة من عام ١٩٩٦-٢٠١٥.
وقد يقول البعض إن هناك أولويات أهم من التفكير في تطوير التكنولوجيا في الكويت التي قد تكون غير جاهزة لمواجهة مثل هذا التحدي، لكنني أقول إنه إذا استمررنا في العمل فقط على وجود حلول لمشاكل اليوم، سنستمر بمحاولة الالتحاق. والاستمرار في حل مشاكل اليوم يعني عدم جاهزيتنا لمواجهة مشاكل الغد. لذلك فمن المهم جدا ان تكون هناك اولوية في تطوير وتشجيع عدد أكبر من الشباب في المجتمع بان يكونوا مبتكرين، حيث إن المبتكرين من اهم القياديين في عالم جديد. ومن المهم جدا وجود جهود مركزة نحو تعليم التكنولوجيا والابداع منذ الصغر.
وقد يتجنب البعض الولوج في قطاع لا نملك الكثير من أدواته وهو قطاع متسارع في النمو بما يفوق امكاناتنا وقدرتنا على مواكبته، وهنا يأتي الاكتفاء فقط بالاستعانة من نتائج التكنولوجيا لتنفيذ مشاريع محددة، بدلا من بناء مجتمع وجيل متمكن من التكنولوجيا، وهذا يعتبر تقاعسا غير مبرر، وآن أوان النظر لتعليم وتطوير امكانات التكنولوجيا، لكون التكنولوجيا حتمية في بناء المستقبل.
وللحديث بقية..