محمد هلال الخالدي
لم تكن أشهر الاحتلال العراقي الغاشم مجرد فترة سوداء على الكويت، بل كانت بقسوتها وبشاعتها أكبر من أن توصف في مرارتها على كل من أحب هذه الأرض الطيبة، أمام طعنة الغدر والنكران في فجر الثاني من أغسطس عام 1990 من المقبور صدام حسين، الذي لم يجد لوشائج الأخوة والجيرة والنسب والدين والعروبة أي رادع عن مخططه الدنيء لاستهدف كيان وسيادة الكويت، محاولا محوها من خارطة العالم وضمها إلى العراق، فأطلق العنان لزبانيته وجنوده ليمارسوا كل فنون الوحشية على أرض الكويت الطاهرة، ويرتكبوا أبشع صور التعذيب والسرقات والتخريب بوطننا الغالي، لكن بفضل المولى عز وجل، ومع الالتفاف خلف قيادة حكيمة من آل أسرة الصباح، وبالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة، عادت الكويت حرة أبية عزيزة مستقلة.
وفي شهر التحرير، شهر الأعياد الوطنية، حرصت «الأنباء» على الغوص في ملف تلك الفترة العصيبة، بمجموعة من اللقاءات الخاصة مع شخصيات كويتية كانت شاهدة عيان على محنة أهل الكويت سواء في الداخل أو الخارج، لنقدم صورة متكاملة عن كيفية تعامل الكويتيين مع تلك المحنة، وكيف تكاتف المواطنون خلف قيادتهم ليقدموا للعالم أجمع واحدة من أروع صور الولاء والانتماء، وليقوم كل منهم بدوره حتى علت كلمة الحق مدوية في وجه الطغاة، لتهب مختلف الشعوب إلى نصرة قضيتنا العادلة.
شهادات حصرية من أصحابها نسترجع بها أصعب مرحلة مرت على تاريخ الكويت ولنأخذ منها العبر والعظات ولننتبه إلى أن تكاتفنا خلف قيادتنا السياسية سيظل سلاحنا القوي في وجه أي تحديات.
استرجع عضو مجلس الأمة السابق عبداللطيف العميري بعضا من ذكريات الاحتلال العراقي الغاشم بمرارة كبيرة، وتحدث عن التحرير بفرح غامر، وقال إنه علينا أن نتعلم من تلك التجربة القاسية لبناء دولتنا والحفاظ عليها.
وتحدث بداية عن الغزو العراقي في 2 أغسطس 1990، قائلا: كنت في المنزل وعلمنا بالغزو، فسارعت إلى الالتحاق بعملي في مخفر السالمية حيث كنت أعمل محققا آنذاك، وكان الوضع مرتبكا بشكل واضح والجميع في حالة من الذهول.
وأضاف كما التحق أخي الكبير أحمد العميري بوحدته، حيث كان ضابطا في الجيش الكويتي، وتوجه إلى جزيرة فيلكا ثم انقطعت أخباره، ولم يرجع إلا بعد 3 أسابيع.
مركز للمتطوعين
ويكمل العميري قائلا: في تلك الفترة كنت عضوا في مجلس إدارة جمعية القادسية، وبدأنا مباشرة تنظيم صفوفنا لضمان خدمة أهالي المنطقة، حتى أصبحت الجمعية وقتها مركزا للمتطوعين، ففي تلك الأيام وبعد توقف العمل في مؤسسات الدولة وخروج أكثر الوافدين الذين كانوا يعملون في المراكز الخدمية، وقد اضطر الناس إلى تولي تلك المهام بأنفسهم، وكان الوضع صعبا جدا حيث بدأت المواد الغذائية تشح، مشيرا إلى أن الوضع كان يتطلب توفير متطلبات الحياة الأساسية من طعام وماء ودواء وغاز للطبخ، ولذلك كان أفراد العائلة كلهم يخرجون من الصباح الباكر بحثا عن المواد الغذائية في مختلف مناطق الكويت، فالجميع كان في حال انتظار أن ينتهي هذا الكابوس المرعب الذي خيم على الكويت.
متطلبات المعيشة
وأضاف العميري: إن الجمعية استطاعت تنظيم الأمور لأهالي المنطقة، لكن الموارد تقلصت كثيرا وأصبحنا عاجزين عن توفير متطلبات المعيشة للمواطنين بسبب تعطل مرافق الدولة، ثم بدأت تأتينا الأموال من الحكومة الكويتية في المملكة العربية السعودية، وقال إن النائب السابق أحمد باقر هو الذي كان همزة الوصل بين الحكومة الكويتية في السعودية وبيننا، إضافة لآخرين بالتأكيد.
وزاد العميري: كنا نوزع تلك الأموال على أهالي المنطقة بصورة منتظمة، وكان أخي يذهب إلى منطقة سفوان العراقية ويشتري الأغنام، وكنا نوزع اللحم على أهل المنطقة، مشيرا إلى أن من الأمور الصعبة التي يذكرها كان توفير غاز الطبخ، حيث استولى الجيش العراقي على سيارات الجمعية وكانت عملية الحصول على الغاز مهمة صعبة جدا، حيث كنا نذهب إلى ميناء عبدالله، حيث مصنع الغاز ونسجل طلبات وهذه كانت مهمة تتطلب يوما كاملا كل مرة.
ما قبل التحرير
واسترجع العميري أيضا ذكرياته حول الاحتلال العراقي والتحرير، قائلا إن الأيام الأخيرة للاحتلال كانت من أصعب الأيام، حيث بدأ الجيش العراقي باعتقال كل من يخرج للشارع وبصورة عشوائية، خاصة مع بداية الضربة الجوية، وفي تلك الفترة بدأت الكهرباء تنقطع والمياه تشح والمواد الغذائية أصبحت شبه معدومة، واضطر كثير من الناس إلى أن يخبزوا في منازلهم، مضيفا أن والدته رحمها الله كانت تقوم بهذه المهمة في منزلهم.
ويقول العميري: إننا كنا على علم بما يجري من استعدادات عسكرية وبالتحركات السياسية ونحن داخل الكويت، حيث كنا نتابع الأخبار أولا بأول عبر الراديو، خاصة إذاعة لندن ومونتي كارلو.
ويكمل: ما زلت أذكر يوم التحرير جيدا وكأنه حدث أمس، ففجأة في يوم 26 فبراير 1991 وجدنا المنطقة خالية تماما من الجنود العراقيين بعد هروبهم، فقمنا مباشرة بتنظيم صفوفنا من جديد وعدنا إلى تنظيم المنطقة ومتابعة شؤون أهلها، وتسلمنا المخافر والشوارع وقمنا بحفظ الأمن لحين وصول القوات الكويتية ومعها قوات التحالف حيث تولوا حينها زمام الأمر.
مواقف وأمثلة
وتطرق العميري إلى كثير من المواقف والأمثلة والأمور التي مازالت عالقة في ذهنه عن تجربة الاحتلال والتحرير، ذكر منها أن الناس خلال فترة الاحتلال أصبحوا أكثر إيمانا، فأصبح الجميع يحرص على الصلاة في المساجد، وكنا نصوم كل اثنين وخميس، وزاد التلاحم والترابط بين أهل الكويتيين بشكل لافت، فكان الشباب شعلة نشاط وعمل دؤوب لخدمة الآخرين، وكانوا يقومون بأنفسهم بالأعمال اليومية مثل إصلاح الأعطال الكهربائية أو الأدوات الصحية أو الحلاقة أو تنظيف المنطقة أو في المخابز والجمعيات التعاونية وغيرها، وكل ذلك تطوعا بلا مقابل، فكان المجتمع في تلك الفترة مثالا رائعا للمجتمع المتماسك بمختلف أطيافه ومكوناته فلا فرق فيه بين سني أو شيعي ولا حضري أو بدوي، ولم يكن أحد يهتم أو يسأل عن ذلك أصلا، فكلنا كنا كويتيين وهدفنا خدمة ومساعدة بعضنا البعض لتجاوز هذه المحنة الرهيبة.
الولاء للوطن
وتابع العميري أنه علينا العمل على ترسيخ الوحدة الوطنية وتعزيز قيم الولاء للوطن، وأن نولي التعليم في الكويت أهمية أكبر وبما يخدم موضوع الوحدة الوطنية، وبما يرسخ القيم الإيجابية عبر برامج تربوية جادة وعبر ممارسات حكومية ملتزمة تعيد الثقة بالدولة والمجتمع.
وتحدث العميري بمرارة قائلا: ان الاحتلال كان حلما مزعجا لكنه مر بسلام، وعادت الكويت لأهلها بفضل الله عز وجل، والأمم تتعلم من تجاربها القاسية، فقد نهضت اليابان وألمانيا بعد الحروب المدمرة وعادتا أفضل من السابق بفضل العمل الحكومي الجاد الذي وحد المجتمع ورسخ الولاء للوطن.
اقرا ايضا