بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم
بعض الذكريات تستمر مع المرء، بحيث يصعب غيابها عن الذاكرة، فهي تلح علينا مهما حاولنا أن نشغل أنفسنا بشيء بعيد عنها، وإذا كانت تلك الذكريات متعلقة بشخص عزيز على النفس كان تمكنها أشد وبقاؤها شبه دائم.
أشير بهذا الى الحدث الأليم الذي حل بنا عندما توفي الأخ المرحوم جاسم محمد عبدالمحسن الخرافي وذلك في ليلة مأساوية من يوم الخميس 21 مايو 2015، وقد جرى نقله الى مثواه الأخير في حشد لم تشهد له الكويت مثيلا من مساء يوم الجمعة 21 مايو 2015م، ولم يكتف أولئك الذين أحسوا أن بفقده خسارة كبيرة لهم وللوطن بالخروج الى المقبرة لوداعه وتعزية أهله، بل اننا وجدنا أعدادا كبيرة تفوق الوصف وهي تنهال على الموقع الذي كانت أسرة الفقيد تستقبل فيه المعزين. فرحم الله ذلك الرجل، وجزاه خيرا عن كل ما قام به من أعمال هي الدافع لكل هؤلاء الناس الى التعبير عن تقديرهم له وأسفهم على فقده الذي كان مفاجئا للجميع.
لي علاقة طيبة مع هذا الرجل، وقد يعجب البعض انها علاقة بدأت منذ سنة 1949م حين كنا معا في مدرسة المثنى في أول يوم لافتتاحها، وكنت سعيدا بهذه الصلة لأنه كان منذ ذلك الوقت طيبا، قريبا الى النفس، لا تسمع منه إلا الكلام الدال على طيب عنصره، وعلى التربية العالية التي حصل عليها من ذويه، ويكفي ان تطلع على تاريخ جده المرحوم عبدالمحسن الخرافي، ووالده المرحوم محمد الخرافي لكي نعرف ان نتاجهما لابد ان يكون هذا الفاضل الذي عرفته صغيرا واستمرت علاقتي معه الى حين انتقاله الى الرفيق الأعلى.
وأنا في هذه الأيام أتذكر مقالا كتبته عنه بمناسبة فوزه بعضوية مجلس الأمة في 17 يوليو 1999، وكان فوزا ساحقا ومفرحا لنا في الوقت نفسه، وقد أثبتت الأيام التي كان يقود خلالها المجلس انه يستحق فعلا هذا الاختيار، فقد قاد سفينة الديموقراطية في الكويت قيادة تدل على الحنكة، والمقدرة، فاكتسب رضا الجميع على الرغم من المحاولات التي بذلها البعض من أجل عرقلة عمله، وقد شهدنا انه لم يرضخ لأحد ولم يرده عن عمله المستقيم ما كان يواجه به ضلالات.
وعندما انتهى عمله في رئاسة المجلس آثر ان يبقى بعيدا لكي يرتاح من عناء طويل، ولكي يتيح لجيل جديد فرصة العمل الوطني، ولقد ترك بعد مغادرته ذكرى من الأفكار والأعمال والأقوال التي تحسب له، ولو أردنا ان ننظر الى أقواله في المجلس أو في وسائل الإعلام، أو في اللقاءات المختلفة لوجدنا فيضا من الأحاديث المهمة التي تدل على فكر ثاقب، ورأي سديد، فمن ذلك ما يلي:
٭ «مطلوب منا ان نبادر الى صياغة رؤية وطنية مشتركة نساهم جميعا في بناء أركانها، وبلورة عناصرها، وغرس مفاهيمها، هي رؤية وطنية تكون أساسها العدالة والمساواة، وعمادها سيادة القانون، ودولة المؤسسات».
٭ «إننا اليوم مطالبون بأن نعمل أكثر مما عملنا، ونتعاون أكثر مما تعاونا، ونتصارح أكثر مما تصارحنا لكي نحقق أكثر مما حققناه، وننجز أكثر مما أنجزناه».
٭ «العمل الخليجي المشترك هو العمق الاستراتيجي لنا ولأشقائنا في دول مجلس التعاون، وجهود القادة لدعم مسيرة التعاون كانت وستبقى محل تقدير شعوبهم».
٭ «قاعة عبدالله السالم ساحة دستورية للعمل البرلماني تعالج فيها القضايا الوطنية، ونقل تلك القضايا الى ساحة أخرى لا ينسجم مع دولة المؤسسات، ولا يؤدي الى علاج ناجع لتلك القضايا».
٭ «من الخطورة التدخل في مجرى العدالة من أي كان، وخطورة التشكيك تصريحا أو تلميحا بقصد أو بدون قصد بأحكام القضاء فالسلطة القضائية كفيلة بمعالجة شؤونها».
٭ «علينا ان نتيقن أن معالجة قضايا الوطن تكون بالحوار الديموقراطي البناء، لا بالتهديد أو الوعيد.. وبالممارسة السياسية الرصينة لا الانفعال والاندفاع وبالنظر الى الأمام لا البكاء على الأطلال».
هذه مختارات من بعض أحاديثه التي وردت في مناسبات عدة وهي تدل على فكره، وعلى اهتمامه بوطنه، وحرصه على استقرار هذا الوطن وسلامته وأمنه، وعلى ان تسود المودة بين أبناء البلاد، وتكون العلاقات القائمة بين الجميع على أساس من حب بعضهم لبعض، وحبهم لوطنهم، وهو يعرف انه لا استقرار لوطن ما لم يكن أهله متكاتفين يعيشون على التآخي بينهم، وينبذون كل ما يدعو الى الاختلاف والتشتت.
٭ ٭ ٭
٭ نشأ جاسم الخرافي نشأة كان لابد ان توصله الى ما وصل اليه في مستقبل حياته، وعاش في ظل أسرة تحرص على أبنائها، وتعدهم إعدادا جيدا لإدراك شؤون الحياة وكان جده ووالده من العاملين في مجالات الخدمة العامة، ولهم نشاط أهلي وحكومي مميز.
٭ كان أبو عبدالمحسن مديرا عاما لمصانع ومؤسسات محمد عبدالمحسن الخرافي في الفترة من سنة 1961م حتى سنة 1985م.
٭ وكان عضوا منتدبا في عدة شركات كويتية مساهمة منذ سنة 1963م حتى سنة 1975م.
صار عضوا في مجلس الأمة، وترأس فيه اللجنة المالية والاقتصادية منذ سنة 1981م حتى سنة 1985م.
٭ وفي دورة مجلس الأمة التي بدأت في سنة 1985م صار عضوا واختير وزيرا للمالية.
٭ وفي سنة 1996م فاز في انتخابات مجلس الأمة.
٭ فاز في انتخابات مجلس الأمة عام 1999م، وترشح لرئاسة المجلس وفاز بها.
٭ وصار منذ سنة 1990م رئيسا لمجلس إدارة شركة محمد العبدالمحسن الخرافي وأولاده، بعد ان كان مديرا عاما لها.
٭ كان متخصصا في المحاسبة، وحاصلا على دبلوم في إدارة الأعمال من جامعة مانشستر بالمملكة المتحدة.
٭ وهذا بخلاف أنشطته في المجالات الاجتماعية والوطنية ومساهماته في الخدمات العامة، فقد كان وجها بارزا في جميع المناسبات التي تدعو الى مشاركته، ولم يكن يتردد ـ أبدا ـ في القيام بذلك.
٭ ٭ ٭
ولابد في الختام أن نتذكر العلاقات الطيبة التي يرتبط بها مع أصحابه الذين استمرت صلته بهم أمدا طويلا، فكان يرتاح الى مجالسهم، ويرتاحون الى مجالسه، وإذا غاب عنهم فإنه يُفتقد، وينطلق السؤال عنه على كل لسان، ومما حدث في السنوات الأخيرة انه أولع بمزرعة من مزارع الوفرة اشتراها من أحد أصدقائه، ودفع قيمتها في الوقت الذي كان يمكنه ان يحصل على مثلها دون مقابل كما يفعل كثيرون غيره، المهم انه انقطع لهذه المزرعة وارتاح فيها من ضجيج الحياة، فكانت هي المقر الذي يقضي فيه أوقاته التي لا يشغله فيها العمل في مجلس الأمة وقد ألح عليه الأصحاب بالعودة الى سيرته السابقة فهم في شوق اليه والى جلساته المحببة، ولم يتأثر بندائهم له بهذا الخصوص لفرط رغبته في البقاء هناك حيث المكان المريح وحيث المزروعات الجميلة، وقد فكر أحدهم فجاء الي يطلب مني ان أكتب قصيدة باسمهم تحث أبا عبدالمحسن على العودة الى ما كان عليه، وقد استجبت لهذا الطلب الذي جاء من صديق للطرفين.
ولقد كتبت القصيدة المرفقة بهذا المقال، وهي تتحدث أولا عن المكان الذي تقع فيه المزرعة، وما يحيط به من جمال طبيعي مريح للعين عندما ينظر الإنسان الى الزرع والزهور، وهو مريح للأذن حين يستمع المستمع الى تغريد الطيور وشدوها.
وهذه القصيدة كما كتبتها آنذاك:
وبعد، فقد كان ما قدمناه ـ أخيرا ـ مظهرا من المظاهر الإنسانية التي كان يتميز بها المرحوم جاسم محمد الخرافي، فهو في وقت العمل قائد يدير مؤسسة تعتمد عليها الكويت كل الاعتماد حيث كان في وقت كتابة القصيدة رئيسا لمجلس الأمة، وأبت عليه نزعته الإنسانية الا العودة الى سابق عهده مع أصحابه، وكأن شيئا لم يكن، فلم يمنعه تعلقه بمزرعته في الوفراء عن لقاء أحبابه.
رحمك الله يا أبا عبدالمحسن، فإننا نذكر لك الآن في كل يوم ذكرى جميلة تدل على ما كنت تتمتع به من خلق كريم وعادات نبيلة.