بقلم: حنان بدر الرومي
[email protected]
عائلة بومبارك عائلة كويتية من الطبقة المتوسطة وتتكون من رب الأسرة، بومبارك وهو في الرابعة والستين من العمر، متقاعد ولديه زوجة تصغره بسبعة عشر عاما، وابنان وثلاث بنات جميعهم متزوجون ولديهم أبناء. يسكن بومبارك وزوجته وابناه وعائلاتهم في منزل واحد، حيث تدور حكاياتهم التي لا تنتهي.
تضع أم مبارك الملعقة داخل الصحن، فنفسها لم تتقبل الطعام برغم رائحته الطيبة.. إنها تشعر بالانزعاج الداخلي، أخذت تقلب عينها بالطبق وكأنها تبحث بين حبات الأرز المتكومة داخل الطبق عن إجابات تأخذها بعيدا عن القلق الذي سيطر عليها.. شعرت بيد تهز كتفها، فرفعت عينها بتثاقل.
بومبارك وهو يحدق بها باستغراب: عسى ما شر ما تاكلين.
أم مبارك بهدوئها المعتاد: ما شر، بس شبعانه عقب شاي الضحى في بيت أم مشعل.
يقهقه ابنها مبارك بصوت عال وهو يسكب في صحنه من إناء المحمر: يقولون شاي الضحى.. بس هالحريم ما يخلون إلا يحولونه لغدا عزايم من الأصناف اللي يحطونها.
بومبارك: يعنى أكل أم مشعل بينافس هالهامور المشوي والمنسدح بنص الطاولة من كبره ينطر الأكالة.. وإلا مرقة الشعوم اللي اللوميه مرتزه فوقها تنطر من يعصرها، وذاك المحمر العجيب وريحة الهيل والدبس فايحة منه تقول ياماااال، وإلا المشخول اللي يبرق من البياض..
تقاطعه أم مبارك فلم تعد تستطيع الصبر: تقول أم مشعل إن ريلها مبلغها ان الكورونا انتشرت بالديرة والوضع مهو بسهل واحتمال الحكومة تمنعنا من الطلعة وان ريلها قالها تجيل البيت عدل وتكثر من المعلبات وغيره.
ساد الصمت للحظات وكأن عقارب الساعة توقفت لبرهة من الزمن، فلم تعد تسمع صوت الملاعق ولا ضجة الصغار، وكأن الجميع قد بلعوا ألسنتهم لثوان كما بدت الحيرة على الوجوه.
يقطع بومبارك الصمت بسخرية: ماني خابر أم مشعل وزيرة ولا مرت وزير.
خرج صوت أم مبارك في نبرة عميقة لتقول: انت تدري ان بومشعل وظيفته مع الكبار ويحضر اجتماعاتهم وكل أخباره اللي وصلتنا قبل صارت.. بصراحة أنا أحاتي.
بومبارك بضيق واضح: فكينا من هالخرابيط نبي نتغدى ونسبح مع هالمحمر والهامور وربعهم.
تصمت أم مبارك على مضض ولكن الهواجس سيطرت عليها واستبد بها القلق.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
تقف أم مبارك في منتصف غرفة المخزن وقد بدت مجهدة مع ترتيب الكراتين والأغراض التي اشترتها على مدى الأيام الثلاثة الماضية.
الخادمة وهي تمسح بالفوطة العرق المتصبب على جبينها وبلغة عربية مكسرة توجه حديثها لسيدتها: ماما.. انت بيسافر علشان يجيب هذا كله أكل للبيت.
تتجاهل أم مبارك السؤال وتشير بيدها قائلة: باچر بييبون فريزرين أبي هالمكان لهم.
تسمع صوت بومبارك قادما من خلفها: كدينا خير.. بعد شاريه فريزرين.. ليش؟
تنظر أم مبارك بحدة لزوجها ثم تكمل حديثها: نادي السايق والصبي خليهم يشيلون خياش العيش والشكر والطحين ويحطونهم بالربعة هذي أحسن.
يصفق بومبارك بكفيه وهو ينفث بغضب: المرة ينت رسمي، الله يعينك يا بومبارك.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
يعلو صوت أم مبارك وهي تمسك سماعة الهاتف: ويييه.. ألغوا الحفلة.. مساكين راحت شطتهم وتعبهم على ماميش ـ تصمت قليلا وهي تستمع لابنتها ـ ثم تقول: الله يصبرهم ي ابنتى والله خالتچ والنعم فيها وكنا بنجاملها بزواج أصغر بناتها... إي ميخالف ميخالف يا بنتي المهم سعادة البنت وما تفرق حفلة عشرين نفر وإلا ألفين المهم التوفيق.. وهالكورونا أذَّت العالم، وما تنلام الحكومة لما منعت حفلات الأوتيلات.
تسند أم مبارك رأسها على كفها وهى تواصل الاستماع لابنتها: إن شاء الله أبلغ حريم خوانج وانتي علمي خواتج.. سلميلي على خالتچ وفي أمان الله.
تضع أم مبارك سماعة الهاتف بانزعاج: سبحان ربي هالكورونا چنها بتكودنا كلنا بالزاوية.. حسااافة عاد حفلات خالة لطيفة سنعة وونيسة ويعرفون للأغاني اللي تطرب.. راح علينا السامري العدل والرقص.
ترفع رأسها وهي تدندن وترقص بحركات إيقاعية:
ألا ياهل الهوي واعز حالي
عديل الروح مكن بي صوابه
عشير بالمحبة سم حالي
وأنا واحسرتي قلبي غدا به
هني ياللي ينامون الليالي
وقلبي ماطرقهم مثل مابه
تتوقف فجأة.. تقبض يدها وهي تحدث نفسها: فوزية بتيينا باچر إهي وعيالها وبيقعدون عندنا.. إي ريلها بيسافر.. يا ربي عساه ما يسافر الواحد الحين صار خايف مهو عارف شبيصير.. ياالله سترك.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
ينحني بومبارك نحو ابنه محمد ويقول بصوت هامس: ما أدري يا وليدي ـ يشير بعينيه نحو زوجته المنهمكة بإعداد القهوة العربية في المطبخ ـ أمك بتحول بيتنا جمعية وإلا بتشتغل في السوق السودا.
ينتفض محمد من مكانه وقد بدت علامات الصدمة واضحة على وجهه: شتقول..يبا؟
يهز بومبارك رأسه ويكمل حديثه الهامس: اليوم شفت العجب.. أثر غرفة الطعام المقفولة لها أيام كلها كراتين بيض يمكن أكثر من عشرين كرتون.
محمد وقد انحنى بقوة نحو والده وقد جف ريقه: ليش؟
بومبارك: علمي علمك.. وبعد بالدار كراتين منظفات أشكال وألوان وصابون سائل وأكياس صابون بودر وكراتين كفوف ملوت الأطبا واللي يحطونه على حلوجهم حق العمليات غير الكراتين المصكوكة ما أدري شفيها.
ارتسمت علامات الحيرة على محيا محمد: اشدعوة كل هالأغراض ـ يتنحنح قليلا ثم يستدرك قائلا ـ يبا.. يمكن أمي ناويه تشتغل بالتجارة.
يكمل بومبارك حديثه الهامس: لاااا التجارة لها أهلها.. ـ يمسك يد إبنه ويضغط عليها ـ واسمع بعد شارية فريزين كبار واصلين للسقف وثلاجة أم بابين حاطتهم بالدار بس ما خلتنى أفجهم طلعتني من دار الطعام وقفلت الباب.
جالت في خاطر محمد أسئلة كثيرة عجز عن إيجاد إجابة لها وداهمه الخوف وساورته الشكوك.
يقترب بومبارك أكثر من ابنه وقد ضم يديه إلى صدره: عيل لو أقولك عن المخزن اللي بالحوش الكراتين للسقف وعليك الحساب وخياش عيش وشكر وطحين وملح وباچر بيبون فريزرين بعد.. ما أدري شبتحط فيهم.
لم يستطع محمد تحمل مشاعر الحيرة اللي هاجمته.. أحس بإنقباض في نفسه وجالت بخاطره أسئلة عديدة، فقام من مكانه وتقدم بخطى سريعة باتجاه المطبخ.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
يقف محمد عند باب المطبخ مترددا وهو يشاهد والدته تقف أمام البوتجاز ويدها تمسك بإناء القهوة.. شعر وكأن غليان القهوة وتدافعها بحركة دائرية سريعة يمثل ما بداخله من غليان الأسئلة.
أم مبارك ضاحكة: هااا.. يابتك ريحة القهوة.
يشعر محمد بأن لسانه قد ضاع منه فيهز رأسه بالإيجاب.. يجوب المطبخ جيئة وذهابا.. ترفع أم مبارك رأسها نحوه باستغراب.
أم مبارك: وعليه على حماة اختك لطيفة ألغوا حفلة عرسها اللي بالأوتيل عاد مخسرين شي موسهل.. الحين بيسوون لها حفلة صغيرة بالبيت.
ترفع أم مبارك إناء القهوة الساخن من على النار وتضعه على الطاولة.. يقف محمد بجانبها كالتلميذ المؤدب.. تبدأ والدته بسكب القهوة في الترمس.
أم مبارك: تري حسبت حسابك يالغالي الحين بصب لك بالمطارة الثانية وإخذها معاك للجمعية وعندنا حلو مطرشته اختك لطيفة إخذه معاك.
يشعر محمد وكأن الفرج قد أتاه فيقول بسرعة: اليوم عندنا جدول أعمال دسم بناقشه باجتماع مجلس الإدارة.. يما عطيني مفتاح دار الطعام.
أم مبارك بهدوء: ليش؟
محمد: ماعون لطيفه عادي وأبى أطلع ماعون أسنع منه.
تغلق أم مبارك فوهة الترمس بإحكام ثم تبتسم بحنان لابنها: إنتو يالرياييل تاخذون مواعينا السنعة وما تردونهم خلني أحط لك الحلو بماعون ذرب حتى لو نسيته ما يهمني.
يشعر محمد إن الأمر قد سقط من يده ولكنه لا يستطيع أن يخبر والدته بحقيقة طلبه.. هذا مستحيل.. صمت على مضض ولكن حيرته لم تتبدد.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
تتلذذ أم مبارك بطعم الجوز إنها فترتها اليومية المحددة للراحة والاسترخاء فزوجها وأولاده بالخارج والأحفاد وأمهاتهم بشققهم وابنتها فوزية وصغارها بغرفتهم والبيت هادئ والتلفزيون مغلق.. كم تستمع بفترة السكون تسترخى بكسل على الكنبة وتجتهد لاستعادة هدوئها النفسي والجسدي بعد تعب اليوم وقبل رجوع زوجها بصوته العالي وطلباته التي لا تنتهى.
أصوات الركض على الدرج تقضي على أحلامها بالهدوء.
تسمع أصواتا متداخلة: خالتي.. خالتي.
ترد بتكاسل وتملل: هني بالصالة.
تدخل زوجة مبارك للغرفة وهى تلهث وقد أمسكت بمفتاح السيارة بيدها وتتبعها زوجة محمد بوجه شمعي واجم وعينين حائرتين.
كانت كلمات زوجة مبارك تتبعثر وصدرها يعلو وينخفض بوضوح وبدا صوتها مخنوقا: توهم أعلنوا بالتلفزيون إن من باچر بيصير حجر منزلي.. خالتي بنروح الجمعية إشرايچ تيين معانا؟
تتسمر أم مبارك في مكانها لقد كذب الجميع إحساسها العميق بتطور الأحداث وها هو يقع.. تتمالك نفسها وترد بثبات: الله ييسر دربكم روحوا وأنا بنطر عمكم.
زوجة مبارك: خالتي بشوف فوزية يمكن تحتاج أغراض لعيالها.
تركض الاثنتان لخارج الغرفة.. تزفر أم مبارك وكأن جبلا من الهم يجثو على صدرها: ياالله سترك ورحمتك.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
الساعة السادسة صباحا.. ساحة السيارات الملحقة بالجمعية التعاونية..
ينزل بومبارك من السيارة وقد رمى طرفي الغترة حول رقبته وترك العقال في السيارة.. لم يعر اهتماما لولده واتجه مباشرة نحو الجمعية.. يغلق مبارك باب السيارة.. أخذ يبحث في جيوبه.. يخرج ورقة يفتحها ويبدأ بقراءة ما دون بها.
في لحظة يسمع صوتا يناديه: مبارك.. مبارك.
رفع رأسه ليجد أخاه محمد يقف على الرصيف المقابل.
يتجه مبارك نحو أخيه الذي يعلو صوته: أبوي يقولك أخذلك عربانة بروحك لأن أهو بياخذ أغراض للبيت.
يلاحظ مبارك إن أخاه قد بدا متعبا فالكلمات نطقها بهدوء على غير عادته المرحة وبصوت متعب وعيناه غائرتين وكأن الحياة قد امتصت منهما.
مبارك: شكلك مو نايم.
محمد: ما ذقت طعم النوم.. هذي قعدتي أنا وباقي الأعضاء بالجمعية من أمس.. شوفة عينك الحظر صار مفاجئ والناس أمس تغلي.. كل من يبي يچيل بيته.
يهز مبارك الورقة التي بيده: عسى ما فضت الأرفف.. شوف الورقة ما فيها سطر خالي.
يستند محمد المتعب على عمود مظلة السيارات.. يغمض عينيه الغائرتين في محجريهما: لا تحاتي.. العمال قاعدين يفتحون كراتين جديدة لكن الخبز وأنواعه ووايد من أنواع الخضار ما وصلت للحين.. إن شاء الله على ما تفتر بالجمعية وتلقط يكونون رتبوهم بأرففهم.
يمسك مبارك كتف محمد بأخوة حنونة: يا أخوي روح البيت لازم تنام.
يهز محمد رأسه وهو يقول: ما أقدر أسوق السيارة بنطركم تخلصون وأرجع معاكم للبيت.
٭ ٭ ٭ ٭ ٭ ٭
أربعة أيام مرت على الحجر المنزلي ومنع التجوال الجزئي في الكويت.. الهدوء يعم الفريج أما داخل المنازل فالصخب هو الرفيق الدائم.. المدارس أقفلت وتم تعليق الجهات الحكومية والخاصة.. تحمل أم مبارك صغير ابنتها وتغنى له وتلاعبه.. يتابع مبارك شاشة التلفزيون وهو يبتسم سعيدا على الأغنية.
تجلس أم مبارك الصغير في حضنها ويدها تعبث بشعره: والله إني ولهانة على ولدى محمد ما أشوفه عدل.
مبارك: الله يعينه أهو وكل من معاه.. مجتهدين لخدمة سكان المنطقة.
أم مبارك: أقول فوزية ريلچ ليش ما يرد الأوضاع ما تريح الواحد؟
تمسك فوزية بالمشط وتسرح شعر ابنتها: لا تحاتين يما.. فرنسا ما فيها شي ودورته بره باريس ومعاه ستة ضباط والله يحفظهم.
ترفع أم مبارك كفيها للأعلى وهي تردد: آآآآآآآآآآآمين.
مبارك: ذبحني اليوع متى بيطيح الغدا.
يــــرن صوت بومبـــارك الصاخب جدا في أرجاء المنزل: حصصصصصه يا أم مبارك.
تغمز فوزية عينها وهي تضحك: عنتر حضر يا عبلة!
تضحك أم مبارك وقد أضاءت السعادة وجهها: الله يخليه ويحفظه.
يدخل بومبارك رأسه من فتحة الباب.. بدا عابسا مكفهرا.. تتوتر أم مبارك فتعطي الصغير لأمه وتقوم من مكانها.. تدخل نورة للغرفة وتسلم.
أم مبارك تجتهد لإخفاء تعابير الصدمة: هلا نورة شيايبچ إنتي وعيالچ.
نورة: يما ما يخفاج إن ريلي مع الأطباء في حالة استنفار وإذا رجع البيت ينعزل عنا بالديوانية وحط له غسالة خاصة له.. وانا تعبت من الوحدة.. وإذا ظلم الوقت تبدأ الهواجس تلعب بمخي وتخرعني فقلت أيي أنا والعيال وخدمي نقعد عندكم الليما تفرج.
يبهت لون وجه أم مبارك.. تجول بنظرها في المكان تجد ابنها وقد ضم قدميه لصدره بقوة وبدا متوثبا للهرب.
أم مبارك: عيب يا بنتي ريلچ دكتور وهو بالخطوط الأمامية وما قصر معاچ راضاچ وحط لچ البيت شحلوه بالمسايل والحين تخلينه بروحه.
تنحني نورة وتداعب الصغير الذي يضحك لها ببراءة: لا تحاتين.. ريلي موافق ـ تلتفت لوالدتها ـ يعني لو صار فيني أو بعيالي شــي بالليل شسوي واحنا بروحنا؟
أم مبارك بهدوء: ماكو إلا الخير أكبر عيالچ ريال عمره 13 سنة وانت ما ينخاف عليچ.
تقف نورة في منتصف الغرفة وهي تقول بلهجة تمثيلية: بيت الأهل مركز الأمان.
تضرب أم مبارك خدها ضربة خفيفة: الله يعينا على اللي ياي.. الكورونا والعزل والكل متكدس بالبيت وفوقهم نورة ـ تطلق تنهيـــدة عميقــــة ـ يا لطيف عونك.
(يتبع الجزء الثاني)