إعداد: محمد ناصر
خسر الوسط الثقافي العربي احد ابرز وجوهه برحيل د.فؤاد زكريا عن 83 عاما بعد صراع مع المرض.
وللراحل بصمات بارزة في النهضة الثقافية في الكويت حيث درّس في جامعتها بدءا من عام 1974 وكان رئيسا لقسم الفلسفة في الجامعة، كما يعتبر المفكر فؤاد زكريا صاحب فكرة أهم السلاسل الثقافية العربية «عالم المعرفة» حيث تقدم بورقة عمل حينها حول مشروع اصدار سلسلة كتب ثقافية تصدر من الكويت وبدعم كامل من الدولة، وأشار الى ان الحاجة تدعو الى اصدار سلسلة يراعى فيها تلبية حاجات القارئ العربي غير المتخصص الى الإلمام بثقافة العصر والاحاطة بمشكلات العالم الذي يعيش فيه مع عدم تجاهل تراثه وعناصر الاصالة في شخصيته القومية وان تبقى السلسلة محتفظة بمستوى علمي معقول ولا تتنازل عن هذا المستوى في سبيل اي اعتبار آخر.
وكان له ما أراد وتولى مسؤولية الاشراف العلمي على المشروع ليصدر الكتاب الأول في يناير 1978 وكان بعنوان «الحضارة» من تأليف د.حسين مؤنس وبمناسبة مرور ربع قرن على صدور «عالم المعرفة» كرم رئيس تحرير مجلة العربي د.سليمان العسكري د.فؤاد زكريا بمقال افتتاحية المجلة عدد شهر فبراير 2002 وذكر فيه انجازات الراحل في تأسيس المجلة التي ارتبط اسم فؤاد زكريا بها ارتباطا وثيقا وكان بمثابة الأب الروحي لهذه السلسلة، حيث نشرت وترجمت أهم ما أنتجه الفكر العالمي ومن أبرزها كتابه «التفكير العلمي» الذي يعد أبرز الإنجازات الفكرية لهذا المفكر الكبير والذي تم إعادة طبعه اكثر من 4 مرات وتجاوز عدد نسخه الـ 100 ألف نسخة.
سلسلة عالم المعرفة
وكان د.فؤاد زكريا يُرجع نجاح سلسلة عالم المعرفة الى عاملين: العامل العلمي والعامل الأخلاقي، ويقول الراحل انه فيما يتعلق بالعامل العلمي، فنحن نجد ان كل من له صلة بالسلسلة يعطيها من وقته وجهده الكثير، ومعنى ذلك اننا ندقق كثيرا، ولا توجد اي محاولة للتساهل او التسيب، بل ان هناك جدية شديدة في العمل ظلت ملازمة للسلسلة منذ البداية وحتى هذه اللحظة، اما من الناحية الأخلاقية، فهناك ما يمكن ان نسميه بدور الضمير الأخلاقي في هذا الموضوع، لأننا في مجتمعنا العربي كثيرا ما نفسد أعمالنا او مشروعاتنا الناجحة من خلال المجاملات ومراعاة الخواطر والواسطة، ونحمد الله ان المجاملات او التعصب او العوامل المحلية او الاقليمية، كل هذا ليس له دور في هذه السلسلة، فنحن نحاول بقدر الإمكان ان نجعل من قيمة العمل نفسها المحك الوحيد، لذلك تجدنا اعتذرنا عن أعمال لبعض الشخصيات الكبيرة او طلبنا منها ان تعيد هذه الأعمال وتراجعها مراجعة أساسية، بينما قُبلت أعمال أخرى لشخصيات في أول السلم العلمي، لكنها قدمت شيئا جديدا فقبلت هذه الأعمال، وربما كان دخولها في سلسلة عالم المعرفة بداية الطريق لتصبح هذه الشخصيات معروفة على المستوى العربي كله».
الاحتلال العراقي
واستمرت السلسلة بالصدور حتى أغسطس 1990 تاريخ الغزو العراقي لتتوقف السلسلة بعد ذلك، وكان ذلك الاحتلال ـ كما يقول د.فؤاد زكريا ـ عام تلوث بالفعل، تلوث سياسي وعسكري أصابنا منذ اللحظة التي فكر فيها بلد عربي في ان يحل مشكلته مع بلد عربي آخر بالغزو وتلوث أخلاقي تمثل في تلك الممارسات الهمجية التي تفوق كل ما يخطر ببال الخيال المريض، وتلوث مادي في عمليات التلغيم والهدم والتخريب، ثم الإحراق الكامل لأشد المواد قابلية للاحتراق، ولثروة عربية آثر الغزاة ان يبددوها في الهواء ماداموا قد وجدوا أنفسهم عاجزين عن الاستحواذ عليها، لقد كانت أشد اللحظات إيلاما هي تلك التي اكتشف فيها كل من أسهم بجهده وفكره في إنجاح مشروع ثقافي مثل «عالم المعرفة» ان تلك المعاني التي حاولنا قدر استطاعتنا ان نغرسها في النفوس طوال 13 عاما قد انكسرت عند القشرة الخارجية لعقول الكثيرين، وان قيما كالحرية وحقوق الإنسان والتضامن والتفاهم والعقلانية لم تجد من يدافع عنها بين شعوب عربية كاملة، بل لقد وجدت، بين أشهر «المثقفين» من يعد هذه القيم رخاوة وطراوة، ويسمي الفاشية الدموية الغاشمة «صرامة».
على ان صدمة الكشف الأليم والكلام لزكريا سرعان ما تتحول الى مزيد من الإصرار، فالطريق مازال طويلا، هذه هي الحقيقة الأساسية التي أثبتها ذلك الانشقاق الفكري الذي أصاب العقل العربي منذ الثاني من اغسطس، ولكن هذه الحقيقة بعينها هي التي تجعل «عالم المعرفة» اكثر ضرورة، وتجعل أهدافها أشد إلحاحا، فالتنوير الذي اتخذته هدفا لها لابد ان يخوض معركته، وفي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.
وفي مقدمته لأول كتاب من السلسلة يعود للصدور بعد محنة الغزو وهو «الكويت والتنمية الثقافية العربية» يبدأ د.فؤاد زكريا بعبارة قالها له شاب عربي لم يزر الكويت ولا يعرف عنها سوى القليل: «إنني لا أعرف الكويت إلا بوصفها منبعا للثقافة» هكذا قال الشاب، واختتم د.زكريا المقدمة بقوله: «أعود.. الى هذا الشاب العربي الذي لا يعرف الكويت الا بوصفها منبعا للثقافة، أزجي اليه التهنئة لأن صرحا من الصروح الشامخة لهذه الثقافة قد ارتفع من جديد، ولا تملك أسرة تحرير «عالم المعرفة» إلا ان تعد هذا الشاب بأنها ستواصل مسيرتها على النهج نفسه الذي أتاح لها أن تكتسب ثقة جيل بأكمله، وتعمل ما في وسعها كيما يستوعب العقل العربي تلك الدروس البليغة التي علمتنا إياها أحداث مشؤومة حرمت شبابنا ـ الى حين ـ من منابع ثقافتهم الأصيلة».
وقد كانت كل هذه المعاني ماثلة في أذهاننا عندما بدأنا العمل على إعادة إصدار سلسلة «عالم المعرفة» من القاهرة منذ الأشهر الأولى للغزو، وقد حصلنا على موافقة فورية من مجلس الوزراء الكويتي في المنفى على إعادة إصدارها، وتم تأمين الميزانية المطلوبة لذلك، وتم لنا إعادة الإصدار في سبتمبر 1991 من القاهرة، وظلت تصدر من القاهرة الى ان عادت مرة اخرى للصدور من الكويت بعد التحرير اعتبارا من ابريل 1992، حيث طبعت في اول مطبعة كويتية يعاد بناؤها وتأهيلها بعد الغزو والتحرير.
شيخ الليبراليين
اطلق البعض على المفكر الراحل لقب «شيخ الليبراليين»، فهو صاحب مقولة «العلمانية هي الحل» وصاحب النظرية القائلة ان الغزو الثقافي العربي خرافة لا وجود لها، ففي آخر حواراته الصحافية الشهر الماضي والذي كان لجريدة «الشرق الاوسط» اللندنية، اعتبر ان اهم مشكلة مزمنة يعانيها العقل العربي والثقافة العربية هي مشكلة الحرية، بمعنى ترك كامل الحرية للكتاب والمفكرين في ان يقولوا ما يعتقدونه وما يريدونه دون قيود مفروضة عليهم من اي نوع ودون فرض تحريمات او قيود عليهم في اهم الميادين التي يرتادونها او المجالات المعرفية والفكرية التي يعالجونها ويدرسونها، وكل المجالات المطروحة للدراسة والتفكير. واجاب عن سؤال عن معاركه الفكرية والنقدية التي خاضها في حياته قائلا: ان اهم معركة خضتها كانت ضد محمد حسنين هيكل ردا عليه في كتابه «خريف الغضب»، وبالطبع فنقدي لهيكل والكلام لزكريا نقد ضمني وتقييم لمرحلة الرئيس جمال عبدالناصر والتجربة الناصرية في مجملها، وانا كنت كعادتي دائما اريد ان اعبر عن رأيي الخاص، وليس مساندة اي حاكم ضد حاكم آخر، وبالنسبة لمحمد حسنين هيكل فأنا هاجمته وكشفت عما حاول هو ان يخفيه عن نفسه بشكل واضح يستطيع القارئ ان يستنتجه بسهولة من القراءة الفاحصة لردي عليه في كتاب «كم عمر الغضب»، ومازلت على قناعة به الى الآن، لدرجة انه كان في زيارة الى الكويت وقام احد معدي البرامج في التلفزيون الكويتي بدعوته لمواجهتي في مناظرة علنية لكنه تجنب هذا اللقاء وتلك المناظرة.
سيرة حافلة
ولد المفكر الراحل في مدينة بورسعيد الساحلية عام 1927 وتخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1949 ونال درجة الدكتوراه عام 1956 من جامعة عين شمس التي ظل يعمل بها حتى سفره الى جامعة الكويت عام 1974، حيث عمل استاذا ورئيسا لقسم الفلسفة في كلية الآداب، مارس الصحافة الفكرية الى جانب التدريس، فكان له باع طويل في التأليف والتعريب الفلسفي.
وللراحل ترجمات ومؤلفات في النقد الثقافي والفلسفة منها «اسبينوزا» عام 1962 ونال عنه جائزة الدولة التشجيعية في مصر و«نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للانسان» و«الانسان والحضارة» و«التعبير الموسيقي» و«مشكلات الفكر والثقافة» و«التفكير العلمي» و«خطاب الى العقل العربي» و«الحقيقة والوهم في الحركة الاسلامية المعاصرة» و«الصحوة الاسلامية في ميزان العقل» و«الثقافة العربية وازمة الخليج» والذي ناقش فيه مواقف بعض المثقفين العرب من احتلال الجيش العراقي للكويت عام 1990 وتحرير البلاد عام 1991.
ونال زكريا جائزة الكويت للتقدم العلمي وجائزة العويس الاماراتية وجائزة الدولة التقديرية في مصر.
واقرأ ايضاً:
الأسرار الخفية في حياة شيخ الأزهر الراحل: رفض العلاج والحج على نفقة الدولة و رصد 10 ملايين جنيه من حسابه لإنشاء مجمعين للمعاهد
مبعوث صاحب السمو في القاهرة لتقديم العزاء بوفاة شيخ الأزهر
القبندي: رحلة إحياء ذكرى الغوص ستقام في الفترة من 15 وحتى 24 يوليو ولمغاصات الكويت فقط
«المعلمين» لوزيرة التربية: الخلل ليس في قلّة الساعات والفترة الدراسية وإنما في الساعات الفعلية للتدريس وعدم الالتزام بالخطة التعليمية
المطيري: إستراتيجية «الأبحاث» تركز على الفكر الإبداعي واحتضان المفكرين