-
بعضهم يتتبع الشاذ من الأقوال ويلفق الفتوى بهواه لمصالح دنيوية ولإرضاء جهات معينة حتى لا يتهم بالتشدد والتطرف
-
كم من فتوى نقلتها الصحف دون تحر أو بقصد التشويه فتبين زيف نسبتها إلى صاحبها كما حصل مع العلامة البراك واللحيدان والمنجد والأحمد.. والقادم الله أعلم به
«إن من أعظم ما يهدم الدين ويوهن بنيانه زلة العالم، ذلك لأن فتنته تتعدى من وراءه ممن لا علم عنده، أو ممن قلت بضاعته في العلم، فكيف إذا كان العامي متبعا للهوى مؤثرا لشهواته وملذاته مقدما للدنيا على الدين» خرجت هذه الكلمات وملؤها الحزن والإشفاق على ما ابتليت به الأمة الإسلامية مؤخرا من فتاوى شاذة تخلق تشويشا وارتيابا لعامة المسلمين، وتجعل من المنكر معروفا وتقلب البدعة إلى سنة، وينكر ما هو معلوم من الدين. «الأنباء» التقت صاحب هذه الكلمات، وهو الإمام والخطيب في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الداعية محمد ضاوي العصيمي، لتطرح بين يديه تساؤلات عديدة حول آداب المفتي والمستفتي، ورأيه حول انفلات أمر الفتوى بين العلماء والمتعالمين في ظل عصر الفضائيات والاتصالات التي أتاحت رؤية ما يدور في العالم الكبير عبر شاشة تلفزيون أو كمبيوتر صغيرة.
العصيمي حذر من تتبع زلات العلماء وهفواتهم التي قد تصدر منهم، ومن أخذ الفتاوى الشاذة والمهجورة، مشيرا إلى أن المرجع في الأمر هو الرجوع إلى نصوص الوحيين من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، لأن العلماء بشر كسائر المسلمين غير معصومين ولا مؤيدين بوحي. وحول ما أثاره الداعية أحمد الغامدي من تشكيكه في حرمة الاختلاط تساءل العصيمي: أين الغامدي من الأدلة الكثيرة التي تمنع النساء من الاختلاط بالرجال حتى في مواطن العبادة التي يستبعد أن ترد عليها الشبهة؟ لافتا إلى أن شبه الغامدي وحججه هزيلة، حيث لم يدرك الفرق بين الاختلاط المباح بضرورة والحاجة المنزلة منزلة الضرورة كما يحدث مع الخدم في البيوت أ وفي مناسك الحج أو في التطبيب وبين الاختلاط غير المبرر في الجامعات وأماكن العمل، وفيما يلي تفاصيل اللقاء:
بداية حدثنا عن خطر وعظم هفوة وزلة العالم في فتواه على الأمة؟
إن من أعظم المصائب وأشد الرزايا أن ينكر المعلوم من الدين، وأن يرد ما أوجبه وشرعه رب العالمين، وتعظم المصيبة إذا كان المنكر لما شرعه الله تعالى ممن يشار إليه في العلم بالبنان، وممن حاز في الدنيا على رفيع المناصب وأعلى المراتب وسطر قبل اسمه وبعده أعلى الألقاب، فهنا تعظم الفتنة به وبكلامه ويروج على من لا علم عنده ما ألقاه من قول، لقد حذر العلماء من زلة العالم، وبينوا شدة أثرها وخطرها على دين الناس، قال عمر رضي الله عنه «ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون». وقال أبو الدرداء «إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن»، ومن هنا يظهر وجوب الورع في كل كلمة يقولها أو لفظ يتلفظ به العالم، وقال ربيعة شيخ مالك رحمه الله «الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا وما أمروهم به ائتمروا ».
تتبع الشاذ من أجل التيسير
لكن نجد بعضهم يعتمد في فتاواه على أقوال ضعيفة في بعض المذاهب أو شواذ الأفهام من علماء سابقين لهم وزنهم بحجة التخفيف على الناس، فهل يصح مثل هذا الفعل؟
هذا غلط شديد وشبهة ساقطة، فمع الأسف هناك من اتبع الهوى في الفتوى وتتبع الرخص ولفق لمصالح دنيوية أو لأجل جهات معينة حتى لا يتهم بالتشدد والتطرف، ونقول لمثل هؤلاء أين أنتم من قوله تعالى (وان احكم بينهم بما أنزل ولا تتبع أهواءهم)، وهنا أسوق لك بعضا من أقوال سلف الأمة وفتاوى العلماء الموثوقين في التحذير من تتبع الرخص والأقوال الشاذة والمنكرة.
قال سليمان التيمي: «إذا أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله»، وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: «دخلت على المعتضد فدفع لي كتابا نظرت فيه وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم لنفسه فقلت، يا أمير المؤمنين مصنف هذا الكتاب زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث، قلت: الأحاديث على ما رويت (أى صحيحة) ولكن من قال بكذا لم يقل بكذا، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأحرق ذك الكتاب».
وقال السعدي: «لوقال بعضهم: يوجد بعض علماء الأمصار لا يوجبون الطمأنينة في الصلاة فلا تنكروا علينا إذا اتبعناهم، أو يوجد من يبيح ربا الفضل فلنا أن نتبعهم، أو يوجد من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير فلنا أن نتبعهم، ولو فتح هذا الباب لفتح على الناس شر كبير، وصار سببا لانحلال العوام عن دينهم، وكل أحد يعرف أن تتبع هذه الأقوال المخالفة لما دلت عليه الأدلة الشرعية ولما عليه أهل العلم من الأمور التي لا تحل ولا تجوز».
قرارات المجمع الفقهي
وجاء في أحد قرارات المجمع الفقهي ما نصه «الحذر من الفتاوى التي لا تستند إلى أصل شرعي ولا تعتمد على أدلة معتمدة شرعا وإنما تستند إلى مصلحة موهومة شرعا ونابعة من الأهواء والتأثر بالظروف والأحوال والأعراف المخالفة للشريعة». وقال العلامة بكر أبوزيد، رحمه الله: «ولم يفلح من جعل هذا الخلاف سبيلا إلى تتبع رخص المذاهب ونادر الخلاف، وندرة المخالف والتقاط الشواذ وتبني الآراء المهجورة، والغلط على الأئمة، ونصبها للناس دينا وشرعا، ومنها إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية، وفتوى إباحة السفور وفتوى إباحة الاختلاط، وكلها فتاوى شاذة تمالئ الرغبات وبعض التوجهات، كل هذا على حساب ترقيق دين الناس وتوهينه».
الاحتجاج بأقوال بعض العلماء
العامة من الناس يقولون «حطها براس عالم تطلع سالم»، فهل يصح للمسلم العامي الاحتجاج بقول عالم بالشواذ من المسائل؟
ليس للمرء أن يحتج بقول كائن من كان بحجة وجود العلم معه، إذا كان يعارض بفتواه نصوص الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي»، وليحذر الإنسان من طاعة العلماء في غير ما أراد الله، قيل لحذيفة (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه.
إذن نريد توجيها لمن يتصدر الفتوى وهو ليس بأهل لها، وما عقوبة التقول على الله بغير علم؟
إن من أخطر الأمور وأعظمها شرا على دين المسلم هو أن يقيم نفسه مقام من له التحليل والتحريم، فقد سمى الله تبارك وتعالى هؤلاء الذين يتكلمون عليه بغير علم كذبة ومفترون، قال تعالى (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون)، وقال تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)، وبين سبحانه عظم التقول عليه بغير علم وجعله قرين الشرك بالله تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فالقضية في غاية الخطورة لمن علم وعقل.
حالات المفتي
بعضهم يتساءل، ما الحالات والمسائل التي يتوجب على الإنسان سؤال أهل العلم دون غيرهم، وما المسائل التي يجوز له أن يفتي نفسه وغيره بها دون العودة للعلماء الكبار؟
إن ما يطرح على المفتين من مسائل لا يخلو من أمرين، إما أن تكون هذه المسائل من مسائل الدين التي قد يتقنها طلبة العلم والمشائخ وأهل الفضل، فهذا يسع طالب العلم المتقن أن يتكلم فيها ويذكر ما ترجح عنده، وإما أن تكون من النوازل العظيمة والفتن الملمة والأحداث المدلهمة كمسائل الجهاد ونوازل الأمور التي يترتب عليها إراقة الدماء واستحلال القتال وغيرها، فهذه المسائل لا يجوز أن يخوض فيها إلا الكبار من أهل العلم، ممن شابت رؤوسهم في العلم وجمعوا بين العلم وسبر الأمور وتجارب الحياة وتقدير المصالح والمفاسد، وهؤلاء لن تعدم الأمة منهم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه «لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته»، وصدق رحمه الله، فها هي الأمة تفقد عالما أو عالمين فيظهر الله غيرهم.
نسأل الأورع والأتقى
لكن ماذا نصنع إذا وجدنا العلماء مختلفين في مسألة، فهذا يحرم وذاك يحلل؟
يجب على المستفتي والسائل أن يسأل أوثق الناس عنده وأشدهم تدينا وورعا وتقوى، فالواحد منا لو مرض لسأل عن مرضه أكفأ الأطباء وأمهرهم وأحذقهم، وكذلك لو أحدهم أراد أن يبني بيتا لسأل عن ذلك أمهر المهندسين والعمال، فإذا كان هذا في أمر الدنيا فإن أمر الدين أعظم، فليست الدنيا والله بأعظم من الدين. ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض الناس هو استفتاء أكثر من مفتي في المسألة الواحدة، وهذا مما يوقع الإنسان في حيرة واضطراب، لاسيما إذا كان ليس من أهل العلم، فالواجب على المرء أن يسأل من هو ثقة ويكفيه جوابه، ويزداد الأمر شرا وسوءا عند بعض الناس أن يبني فتواه على التشهي والتخير، فتجده يطوف في المسألة الواحدة على أكثر من مفتٍ وعالم لأن فتوى الأول لم توافق هواه ومشتهاه، وقد قال الإمام مالك رحمه في ذلك «لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض».
كتب الفتاوى المعتمدة
في ظل تعدد الفضائيات وانتشار الفتاوى الغريبة، صرنا لا يمضي علينا اسبوع أو يوم إلا ونسمع بفتوى جديدة لا يعلم لها مستند شرعي، فما تعليقكم؟
يجب على المسلم الحذر مما يبث في الفضائيات من غرائب الفتاوى والمسائل، فما نراه اليوم من التطاول على ثوابت الدين وأساسياته ما هو إلا مثال على ذلك، فهذا يلقي الشبه، وذلك يثير مواضع ليس من المصلحة طرحها ولا إثارتها، ويا ليته طبق مقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه «حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله»، وقال ابن عباس رضي الله عنه «ما أنت محدث الناس بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»، كما يجب أن ننبه أن على الإنسان أن يهتم بقراءة كتب الفتاوى لأهل العلم الموثوقين والمعتبرين، فإن فيها نفعا عظيما وفوائد جمة وهو أفضل من الاشتغال فيما لا ينفع كالصحف والمجلات والمبالغة فيها.
مصطلح الاختلاط
قرأنا لك ردودا على من أباح الاختلاط والذي كان منهم أحمد الغامدي، والذي ادعى أن مصطلح الاختلاط مصطلح دخيل ومتأخر، فما تعليقك على هذه الشبهة؟
الجواب على هذه الشبهة أنه ما المانع أن يصطلح الناس على مصطلح أخذت أحكامه ومسائله من أدلة شرعية متكاثرة ومجمع عليها كالقرآن والسنة والإجماع فكلنا يعلم أنه قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا المعنى بجلاء ووضوح كلفظ الخلوة، والمنع من الخضوع في القول، والأمر بغض البصر، والتحذير من زنا الجوارح، والنهي عن الضرب بالأرجل في الأرض، والحث على القرار في البيوت، والنهي عن التبرج، والحذر من التطيب عند الخروج حتى للمسجد، وما ذلك كله إلا حسما لمادة الشر والفتنة، وذلك لأن الذي خلق الخلق سبحانه وتعالى، أودع في نفس كل واحد من الجنسين الميل تجاه الآخر والتعلق به، هذا الأمر موجود حتى في الحيوانات والبهائم فما بالنا لا نتصور وجوده في بني آدم ونتيجة هذا التعلق الذي يبتدئ بنظرة ثم يفضي إلى الوقوع في الفاحشة إن لم يتداركهم الله برحمة منه وفضل.
استدلال غريب
لكنه أيضا يحتج بحديث الجاريتين اللتين كانتا تضربان الدف عند النبي صلى الله عليه وسلم بجواز الاختلاط وعدم منعه في العهد الأول من الإسلام، فماذا تقول لمثل هذا الاحتجاج؟
حقيقة هذا من غريب استدلاله وهو ما استدل بحديث الجاريتين اللتين أخذتا تضربان بالدف وتغنيان بغناء بعاث، فهذا استدلال ساقط من وجوه، أولا أن اللتين أخذتا بالغناء من الجواري، والجواري جمع جارية وهي الأنثى الصغيرة التي لم تبلغ، فأين هذا من اختلاط النساء البالغات بالرجال؟ فكيف إذا انضاف اختلاط المتبرجات لبسا وتحليا وخضوعا بالقول مع الرجال؟ ثانيا لا أعلم ماذا يريد بهذا الاستدلال؟ فهل يريد أن يبين من خلال استدلاله، أنه يجوز اختلاط النساء بالرجال في المسارح ودور السينما والحفلات وذلك بأن يغنين والرجال يسمعون، ويرقصن والرجال يتمايلون؟ وصدق القائل «فتن أشد من الظلام سوادها.. تدع الحليم بأمره متحيرا».
شواهد على تحريم الاختلاط
إذن هل هناك شواهد تدلل على منع الاختلاط تقوي ما ذهبت إليه؟
الأدلة كثيرة على منع النساء من الاختلاط بالرجال حتى في مواطن العبادة التي يستبعد أن ترد عليها الشبهة، ومع ذلك قطع دابر الشر وسد الذريعة حتى لا يقع المحظور وتعظم الفتنة، فأين كان الشيخ هداه الله منها؟
أولها أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأن يتأخرن في صفوف الصلاة في المسجد، فخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، ونهى النساء عن مس الطيب في حال الذهاب إلى المسجد، وكذلك أمر النساء بالانصراف من المسجد عند انقضاء الصلاة قبل الرجال، وأمر الرجال بأن يتأخروا في الانصراف حتى لا يختلطوا عند أبواب المساجد، وتخصيص النساء بباب مستقل إلى المسجد كما الرجال، وقال صلى الله عليه وسلم للرجال: «لا تدخلوا المسجد من باب النساء» وأمر النساء بالطواف بالبيت ليلا، والرجال يطوفون نهارا.
لكن الغامدي يستدل بوجود الخدم في البيوت على جواز الاختلاط، بل ويتهم المانعين بالتناقض حيث يراهم يحرمون الاختلاط خارج بيوتهم ويبيحونه في داخلها، فما تعليقكم؟
الشيخ هداه الله لم يفرق بين الضرورة والحاجة الماسة المنزلة منزلة الضرورة وبين إطلاق القول بإباحة الاختلاط دون قيد أو شرط، والفرق في الصورتين ظاهر، وحتى المانعون للاختلاط والمحرمون له لا يمنعون منه إن وجدت الحاجة وإلا سيكونون بذلك قد ضيقوا واسعا، ولهذا رخص العلماء بالتطبيب إذا لم يكن ثمة طبيبة، وجوزوا طواف النساء في الحرم مع الرجال، وأباحوا التعليم من الرجال للنساء فيما إذا عجز النساء عن إيجاد من يقوم بهذه المهمة من النساء وغيرها من الأمثلة كثير.فوصيتي للشيخ هداه الله، أن يتقي الله تعالى، وأن يحفظ لسانه إلا من خير، فإن من صمت نجا، ثم يقال له هداه الله، هل فات عليك ما عليه الناس اليوم من واقع مؤلم من رقة الدين، والإغراق في الشهوات والمنكرات، وانفلات زمام السيطرة على النساء حتى تأتي لتصب الزيت على النار فتزيد إضرامها وتشد من سعيرها، وقد نص العلماء على أن المفتى عليه أن يتأمل في فتواه وينظر في مآلاتها وما تفضي إليه لاسيما عند رقة الدين وضعف الإيمان.
الحذر وتحري الدقة
هل من كلمة أو وصية تود قولها في نهاية اللقاء؟
أنصح إخواني بضرورة الحذر مما تبثه بعض وسائل الإعلام التي تهدف الى تشويه صور العلماء والدعاة عبر نقل فتاوى مبتورة وناقصة لم يتفوه بها ذلك المفتي، فكم من فتوى نقلتها الصحف دون تحرٍ وبينة تبين أنه لم يتفوه بها ثم يطير الناس بها دون تحري الدقة ودون تثبت كما حصل مع المشايخ البراك والأحمد واللحيدان والمنجد والله أعلم بالقادم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»، فالواجب إحسان الظن بالعالم وعدم الاستعجال بالحكم عليه قبل الوقوف عند فتواه وتفحص مضمونها وتدقيق النظر فيها.
موقفنا من اختلاف العلماء
سؤال: إذا كانت هناك مسألة ما، وفيها أكثر من فتوى شرعية، فتوى تقول بالتحليل، وفتوى تقول بالتحريم، وفتوى ما بين بين، فالمسلم أي شيء يختار، خاصة في الأمور المستحدثة، والتي يدخل فيها القياس، والاجتهاد، والتي لا نص فيها، مثل: فوائد البنوك، أو أيا كانت المسميات التي يسمونها، بالاستثمار، أو العائد الاستثماري، وما موقف من يقول إنها فتوى عالم، وهو المسؤول عنها، وإنها معلقة في رقبته؟ وما موقف من يتتبع رخص العلماء، وتسهيلات العلماء ورخصهم؟ ويقولون إنهم هم هؤلاء أهل العلم والذكر وهذه فتواهم وهم أعلم منا بذلك، وقد تكون فتواهم معارضة لفتوى شيوخ وعلماء آخرين في نفس الدولة أو في دول أخرى، فأي منهم نتبع؟ وكيف السبيل لمعرفة الصحيح وغير الصحيح؟ مع العلم أن عامة الناس ليس لديهم العلم الكافي للحكم على صحة هذه الفتوى التي تصدر من عالم أو مفت ويعارضها علماء آخرون.
الحمد لله، قبل الجواب على هذا السؤال المهم، لابد أولا من بيان الشروط التي يجب أن تتوافر في المفتي حتى يكون من أهل العلم الذين تعتبر أقوالهم، ويعد خلافه خلافا بين العلماء، وهي شروط كثيرة، ترجع في النهاية إلى شرطين اثنين وهما:
1 ـ العلم: لأن المفتي سيخبر عن حكم الله تعالى، ولا يمكن أن يخبر عن حكم الله وهو جاهل به.
2 ـ العدالة: بأن يكون مستقيما في أحواله، ورعا عفيفا عن كل ما يخدش الأمانة. وأجمع العلماء على أن الفاسق لا تقبل منه الفتوى، ولو كان من أهل العلم، كما صرح بذلك الخطيب البغدادي.
فمن توافر فيه هذان الشرطان فهو العالم الذي يعتبر قوله، وأما من لم يتوافر فيه هذان الشرطان فليس هو من أهل العلم الذين تعتبر أقوالهم، فلا عبرة بقول من عرف بالجهل أو بعدم العدالة.
فما هو موقف المسلم من اختلاف العلماء الذين سبقت صفتهم؟ إذا كان المسلم عنده من العلم ما يستطيع به أن يقارن بين أقوال العلماء بالأدلة، والترجيح بينها، ومعرفة الأصح والأرجح وجب عليه ذلك، لأن الله تعالى أمر برد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة، فقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)، فيرد المسائل المختلف فيها للكتاب والسنة، فما ظهر له رجحانه بالدليل أخذ به، لأن الواجب هو اتباع الدليل، وأقوال العلماء يستعان بها على فهم الأدلة.
وأما إذا كان المسلم ليس عنده من العلم ما يستطيع به الترجيح بين أقوال العلماء، فهذا عليه أن يسأل أهل العلم الذين يوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به، قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). وقد نص العلماء على أن مذهب العامي مذهب مفتيه، فإذا اختلفت أقوالهم فإنه يتبع منهم الأوثق والأعلم، وهذا كما أن الإنسان إذا أصيب بمرض ـ عافانا الله جميعا ـ فإنه يبحث عن أوثق الأطباء وأعلمهم ويذهب إليه لأنه يكون أقرب إلى الصواب من غيره، فأمور الدين أولى بالاحتياط من أمور الدنيا.
ولا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ولو خالف الدليل، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى، بل عليه أن يحتاط لدينه فيسأل من أهل العلم من هو أكثر علما، وأشد خشية لله تعالى (المصدر: الخلاف بين العلماء للشيخ ابن عثيمين، ولقاء منوع مع الشيخ صالح الفوزان).
وهل يليق ـ يا أخي ـ بالعاقل أن يحتاط لبدنه ويذهب إلى أمهر الأطباء مهما كان بعيدا، وينفق على ذلك الكثير من الأموال، ثم يتهاون في أمر دينه؟ ولا يكون له هم إلا أن يتبع هواه ويأخذ بأسهل فتوى ولو خالفت الحق؟ بل إن من الناس ـ والعياذ بالله ـ من يسأل عالما، فإذا لم توافق فتواه هواه سأل آخر، وهكذا حتى يصل إلى شخص يفتيه بما يهوى وما يريد.
وما من عالم من العلماء إلا وله مسائل اجتهد فيها ولم يوفق إلى معرفة الصواب، وهو في ذلك معذور وله أجر على اجتهاده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» رواه البخاري ومسلم، فلا يجوز لمسلم أن يتتبع زلات العلماء وأخطاءهم، فإنه بذلك يجتمع فيه الشر كله، ولهذا قال العلماء: «من تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق، أو كاد»، والزندقة هي النفاق.
موقع سؤال وجواب ـ الشيخ محمد المنجد