ذهب شارلوك هولمز ود.واتسون في رحلة كشفية، وبعد أن نصبا الخيمة وأنزلا متاعهما وغربت الشمس، تناولا العشاء، ثم استلقيا في الخيمة وغطّا في نوم عميق.
وبعد بضع ساعات، استيقظ هولمز، وأيقظ صاحبه وقال له: واتسون.. انظر إلى السماء وقل لي ماذا ترى؟
نظر واتسون إلى الأعلى وقال: أرى الملايين من النجوم.
رد عليه هولمز: وماذا يخبرك ذلك؟
فكر واتسون قليلا ثم قال: فلكيا.. يخبرني هذا أنه ربما هناك ملايين المجرات، وربما مليارات الكواكب، ومن ناحية علم التنجيم.. يخبرني أن زحل في برج الأسد، ومن ناحية الوقت يخبرني الأمر أننا في الساعة الثانية إلا ربعا تقريبا، دينيا.. يخبرني الأمر عن قدرة الله الخارقة، ومناخيا.. يبدو أننا سنستمتع بيوم جميل مشرق غدا، وأنت.. ماذا يخبرك الأمر يا هولمز؟
سكت هولمز قليلا ثم قال: واتسون.. أحدهم سرق الخيمة!
يتميز ابن آدم بكثرة الكلام وحب الجدل، أيا كان جنسه وعرقه، إلا ما رحم الله، إثباتا للحق، أو انتصارا للذات، أو كسبا لمصلحة ما، وكثيرا ما يأخذه الحوار والجدال والنقاش من موقع الحدث الى موقع آخر لتزيد معه مساحة الاختلاف، وتضيق معه مساحة الاتفاق، وأحيانا يبتعد كثيرا عن الواقع غارقا بين أوهام النظريات وتحليلات المؤامرات.
يذكر لي أحد الأصدقاء أنه صبيحة يوم الخميس ٨/٢ اتصل على أحد الدكاترة المنظرين المعروف في وسائل الاعلام والمفكرين، ليخبره بدخول قوات الاحتلال العراقية احتلت الكويت، فأجابه بكل برود: الاتفاقات الدولية لا تقبل ذلك، ووفق لقاء الأمس في جدة وضمانات الرئيس حسني بعدم الدخول و.. و.. و.. فلا يمكن أن يكون قد دخل، هذه إشاعة.
فقال له صاحبي: افتح التلفزيون واسمع الاذاعة، وسترى عكس نظرياتك وتحليلاتك. فلما رأى الواقع صدم، واعتزل بعدها التنظير والتحليل.
ولعل كثير منا سمع بالسياسة الماكارثية، ذلك الشخص الذي قلب كيان أميركا رأسا على عقب بسياسة اتهام كل من يعارض حزبه أنه «شيوعي»، وأخذ يفخم ذلك عبر وسائل الاعلام التي تؤيده، ومن خلال بعض العسكر والمباحث التي بثت الرعب بين الناس، لدرجة أنه أي شخص يريد ان يبتز آخر أو ينتقم منه اتهمه بالشيوعية، حتى الرئيس الأميركي ذاته اتهمه مكارثي بأنه شيوعي، ولقوة الحملة صدقه الكثير وتفاعلوا معه، وأشغل المجتمع عن قضايا كثيرة استغلها هو وحزبه.
ولم يستطع إيقاف هذه الحملة إلا حملة مضادة طويلة الأمد قادها الإعلامي مورو تعرض فيها للأذى حتى حلت العقدة المكارثية.
ونحن نعيش بشكل يومي في حملات إعلامية عالمية منظمة لإشغال المجتمع الدولي عن مخططات صهيونية واقتصادية وسياسية كبرى، تتمركز حالياً في الشرق الأوسط (الجديد)، ومركز الأمة الإسلامية، كما نرى في الشام والعراق ولبنان واليمن ومصر وليبيا وتونس والصومال، حتى دول الخليج لم تسلم منها، ونسأل الله السلامة.
ونعيش أيضاً في مجتمعنا المحلي حملات إعلامية مسعورة متوالية بين أقطاب سياسية معروفة، تهاجم بعضها البعض، وتثير الفتن بأنواعها في المجتمع، ولديها جنود بل فدائيون يحاربون عنهم بالوكالة، ولا يهمهم أية آثار سلبية على المجتمع، وتتسم جميعها بالصراع الاقتصادي، والضحية المواطن البريء، ولولا رحمة الله، واهتمام السلطة السياسية وعلى رأسهم سمو الأمير حفظه الله، لفعلوا الأفاعيل من أجل المال.
لقد أشغلونا بحوارات جدلية لا نهاية لها، وفككوا المجتمع وفق هوية كل شخص، وصنعوا منهم أعداء للوطن، وهم النزهاء الذين سرقوا الوطن!
نعم.. يحذرون الحضري من البدوي، والمواطن من الوافد، ويفتنون بين السني والشيعي، ويثيرون الناس، وتعقد الكثير من النقاشات بين المثقفين في وسائل الاعلام وعلى التلفزيون، والخيمة الأساسية مسروقة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون)، حديث حسن صحيح، وفي جامع بيان العلم وفضله قال الأوزاعي: «بلغني أن الله عز وجل إذا أراد بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل».
الجدل ضيعنا عن الحقيقة فابحثوا عنها.