بعد نهاية 4 سنوات ونصف السنة من خدمتي كسفير للمملكة المتحدة هنا بالكويت، حان وقت رحيلي لأغادر هذا الأسبوع الكويت الشقيقة. إنه لمن الغريب أن أقوم بجولة حول الوزارات والديوانيات لأقول كلمة وداع للأشخاص الذين أصبحوا أصدقاء مقربين لي، ومع ذلك فإنني على علم أن الحب الذي نما بداخلي تجاه هذه الدولة سيعيدني إليها باستمرار، رحيلي أمر محزن جدا.
إنني فخور بما حققناه في السفارة البريطانية من انجازات خلال فترة خدمتي هنا. لكن ما أود أن أتطرق إليه في المقالة الأخيرة هو تجربتي كسفير في الكويت، وما تعلمته من هذه الدولة المذهلة. إنها دولة تتميز بنقاطها القوية. ولعل الشيء الجدير بالملاحظة هنا بالنسبة للوافدين وغير المتوقع من طرف معظم الغربيين هو انفتاح الدولة. كثيرا ما أتعجب للطريقة الصريحة والنزيهة التي يتكلم بها الكويتيون حول القضايا السياسية والاجتماعية، وحسن الضيافة التي نتلقاها نحن الأجانب. وبغض النظر عن الجدالات التي تدور حول الأنظمة السياسية، فإن شعب الكويت شعب بديموقراطيته وسياسته المتعددة ومناقشته المفتوحة، يعتبر معيارا يقاس به المجتمع الكويتي وثقافته ـ كما هو الحال ـ بالنسبة للمملكة المتحدة بالرغم من اختلاف تاريخنا. في الحقيقة، الصحافة الناشطة والوعي السياسي للسكان هو مصدر فخر لدولة تعم فيها مثل هذه القيم في حين أنها لا تلقى دوما الاعتراف والتنمية في مثل هذه المنطقة.
أظن أن الشعب الكويتي هو نقطة قوة أخرى للكويت. فخلال فترة تواجدي هنا التقيت بأشخاص مبدعين وذوي مواهب عالية. وهذا يتجلى في مجال الأعمال، حيث نرى أنه يمكن للكويتيين المنافسة في ساحة السوق العالمية على مستوى عال. وإنه لمثير للإعجاب أيضا الشباب الذين يجمعون بين روح التطوعية والمواطنة والوعي المدني. فمثلا الحركات المحلية للمجتمع المدني بالكويت ـ مثل: لوياك، صوت الكويت، إنجاز، إكويت ـ سبريد ذا باشون، إن هذه المنظمات والعديد من الحركات الأخرى هي طلائع تحرك نحو صنع السياسة الشاملة، وتمكين الشباب وزرع مسؤولية المواطنة التي ستساعد في بناء مستقبل البلاد.
إذا جمعنا بين هذين الأمرين وبين ثروة الكويت والشعور الوطني المتأصل الذي يعطي مفهوما أن تكون مواطنا كويتيا، فإنني أظن ان هناك إمكانيات واسعة لمستقبل البلاد.
إلى حد كبير، هذه الإمكانيات لم تستثمر حتى الآن. هذا أمر متوقع من دولة يافعة قامت باجتياز خطوات واسعة عبر جيلين أو ثلاثة أجيال فقط، انتقالا من مدينة صغيرة لغواص اللؤلؤ، التجار، البحارة والبدو إلى أن أصبحت عاصمة دولية ذات رعاية صحية شاملة وتعليم عالمي في أقل من قرن من الزمان. وذلك بغض النظر عن ثروتها النفطية. هذا يعتبر انجازا لم يسبق تحقيقه في تاريخ البشرية.
ولكن ـ وحتى الآن لم ألتق بكويتي يعارض هذه المقولة ـ إن هذه المسيرة لم تنته بعد. ففي السنوات المقبلة، سواء في خمس أو عشر سنوات أو عشرين سنة، ستحتاج الكويت للقيام بقفزة أخرى إلى الأمام لتغيير الحقائق السياسية والاقتصادية.
ان أحد أوضح التحديات التي تواجه الكويت هي في مجال الاقتصاد. فرغم أن نظام الرعاية من المهد إلى اللحد الاجتماعي في الكويت يعتبر واحدا من افخر الانجازات وأكثرها إثارة، فإنه في نفس الوقت يتطلب استثمارات ضخمة للحفاظ عليه. إن الإدارة الكويتية الحكيمة للثروة النفطية وسياسات الاستثمار البعيدة النظر للهيئة العامة للاستثمار بالكويت توفر حاجزا يحمي البلاد. ولكن في الحقيقة لن تكون البلاد قادرة على استمرار هذا الدعم للأبد دون التنويع الاقتصادي. إن القطاع الحكومي متضخم جدا. ولقد أوضح التاريخ أن البيروقراطية الواسعة تشكل عائقا للنمو. وبوجود العديد من الشباب الكويتي المنتظر لدخول سوق العمل، وتوسع قوائم الانتظار للوظائف الحكومية، فان الحل المنطقي الوحيد هو تنمية القطاع الخاص. إنني أحيي العمل الذي قام به الدكتور محمد الزهير والآخرون في هذا المجال. إنها لمبادرة كبيرة ستتطلب أيضا إعادة توازن الحوافز التي تجعل من العمل الحر والقطاع الخاص مقترحا أكثر جاذبية من الوظائف الحكومية المثمرة.
إن المشكلة الاخرى للبيروقراطية الواسعة هي كونها تهيئ بيئة خصبة للفساد، وهذه بالضبط مسألة مزمنة. لكن بغض النظر عن السياسة، أظن أن الجميع مجمع على أن الفساد يشكل قضية للكويت. فإنه يمحو ثقة الشعب بدولته، ويعوق طريق التجارة والنمو، وهو كمرض سرطاني يتواجد في جميع أنحاء العالم حتى في دولتي. لقد عملنا طويلا وبجد على هذه القضية، وتوصلنا لتشريعات متقدمة ضد الفساد على المستوى العالمي، لنشاركها مع الكويت في المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية. أتمنى في الوقت الحالي أن تستطيع هيئة مكافحة الفساد بالكويت مواجهة هذه المسألة. في النهاية، إن ما سيشكل تغييرا في هذه المسالة هو وضع نهاية للحصانة- فمثلا. إلقاء القبض على شخص بتهمة الفساد بناء على تحقيق مهني يؤكد إدانته. الأمر هنا لا يتعلق بالسياسة، بل يتعلق بالحوكمة. إذ لا توجد أي دواع لعدم إمكانية النظم التي انشئت لهذه الغاية القيام بالامر.
إن التحدي الأصعب لإصدار حكم جيد هو الحصول على سياسة صحيحة. وهذا بالفعل مع أي دولة. إذ لا أظن انه توجد أي دولة بالعالم تمكنت بعد من التعامل مع هذه المسألة. ومع ذلك، الشيء المشجع في الكويت كما هو الحال بالنسبة للمملكة المتحدة ـ هو كون الكويت دولة إصلاح وليس دولة ثورات، دولة تسعى للازدهار والنمو السياسي عبر الحوار وأحيانا بالجدال. وهذا سيستمر بالفعل. لكن في المستقبل القريب هناك بعض المسائل الشائكة التي يجب التعامل معها.
إن التبني السريع لوسائل التواصل الاجتماعي بالكويت واستعمالها في مجال السياسة أتاحت لكل من الحكومة والمجتمع المدني إمكانية التفاعل مع جميع القضايا. وهذا متواجد في كل مكان. لكن وحتى الآن لم يقم احد بالتوصل إلى نموذج مثالي يضمن التوازن بين حق حرية التعبير الذي لا يجوز التصرف فيه، بما في ذلك عبر شبكة الإنترنت، وفي الوقت نفسه منع التحرش والاستفزاز والتشهير. إن إيجاد الحل كما هو في المملكة المتحدة يتطلب جدالا معقولا بين المنظمات غير الحكومية والنشطاء والحكومة.
بالطبع هذا يعكس الحوار السياسي المستقطب داخل الكويت. فعندما يكون الجدال حول اعتقاد أو قرار سياسي أو إصلاح سياسي، فانه بالتالي حوار صحي وجدير بالاهتمام. هكذا يتجلى التطور في أي ديموقراطية. لكن الخطر هو عندما يصبح الأمر شخصيا، وحين يتعلق بالأفراد، ويتحول الجدال إلى تجريح وإهانة. إن الاحتجاج والمعارضة هما جزأين طبيعيين يتممان المجتمع الديموقراطي ـ هذا نراه في الكويت بغض النظر إذا كنت متفقا مع الآراء المعتنقة أم لا. فبما انه يجب على الدولة السماح بحرية التعبير، فيجب على المعارضة في الوقت نفسه إدراك مسؤوليتها من خلال الاشتراك والبناء. إنها ليست بالمهام السهلة ـ فتاريخ العالم بما فيه المملكة المتحدة هو تاريخ يتضمن العديد من الأمثلة من كلا الطرفين اللذين تناولا هذه المهام بصورة خاطئة.
الشيء نفسه ينطبق على قضية حقوق الإنسان ـ اعلم أنها قضية حساسة لكن من واجبي مناقشتها. فمثلا قضية «البدون»، سمعت مرارا وتكرارا خلال فترة إقامتي في الكويت انه سيتم إيجاد حل لها في القريب العاجل. هذا أمر جيد ومرحب به كون أن الحكومة تتفهم خطورة القضية، لكن يجب التحرك بطريقة سريعة لحل القضية وذلك من أجل «البدون» أنفسهم ليتم دمجهم في المجتمع وكذلك من أجل الكويت التي غفلت عن استخدام إمكانياتهم وبالتالي، تتضرر بذلك سمعتها عالميا.
بالطبع هناك الكثير من الكلام يصعب تلخيصه في مقالة واحدة. لكن غايتي الرئيسية من هذه المقالة هي إبراز قدرة الكويت بشعبها، وتاريخها الذي تفتخر به، ومجتمعها المنفتح، ووضعها المالي، على مواجهة جميع التحديات. إن الانطباع الذي أريد أن اتركه لكم هو انه رغم حزني لمغادرة هذه البلاد التي أحبها واحترمها جدا، فان خلفي السفير الجديد، وكذلك خلفه، وكل سفارة وحكومة بريطانية ستكون دائما هنا من اجل الكويت. لنقدم بكل تواضع الدروس التي تعلمناها من أخطائنا وتوفير المساعدة وقتما طلبت منا من حليفتنا الكويت. هذا التحالف الوطيد بين الكويت والمملكة المتحدة الذي تشكل عبر التاريخ وعبر الحروب التي خضناها معا، كان وسيظل دائما مستمرا.