تقول: يقف كل يوم عند رصيف دوار منطقتنا، حرا كان الجو أم باردا، حتى في الغبار يقف ملثما صامدا لا يأبه بتقلبات الجو والظروف معا، أمامه أوعية تحمل خمسة انواع من البنك البلغاري، التركي.... الخ في يوم من الأيام وعندما كنت عائدة من الدوام لم اجده، عاودت الدوران مرات عديدة.. فلم اجده، أكملت سيري للبيت وفي ذهني تساؤلات كثيرة حول سبب عدم حضوره اليوم ليترزق الله.
تكمل: (طلعت من بيتنا) قبل اذان مغرب لمعاودة البحث عنه فتوجهت الى حيث يقف فلم يأت. في اليوم التالي توقعت ان أراه لعل أمرا ما منعه بالامس للحضور وممارسة تجارته البدائية المرهونة بمزاجية مراقبي الباعة الجائلين، اقتربت من الدوار وعيني تراقب موقع وقوفه. ها هو قد عاد والحمد لله وتلك هي السيارات التي اعتاد أصحابها الوقوف على شكل طابور لشراء «البَنَك» منه.
فترة ليست طويلة ليحين دوري قال وهو يوزع ابتسامته المعهودة: هلا (عمتي) آمريني: سألته على الفور (عسى ما شر) لم تكن موجودا بالامس؟
قال: أخذت والدتي للطبيب فقد اشتدت عليها أزمة (الربو) وضيق في التنفس ولم تتهيأ لها الظروف لإسعافها للطبيب ولا يوجد في البيت غيري للقيام بهذه المهمة! افهم من ذلك لم تحصل على دخلك اليومي المعتاد؟ قال: لا والله يا (عمتي) وهذا ما يثقل كاهل والدي وأسرتي وتزيد من آلامنا في ظل شح الموارد، مثلنا لا يملك موردا ماليا غير مدخول بيع (البنك) هذا والإيراد اليومي لجهد وتعب والدي في الشغل على (النساف) يطلع من الصباح الباكر ويرجع إلينا عند منتصف الليل يكون حينها جل ناظرينا على محفظته وما بها من (فلوس) فيقوم بتسليم والدتي ذلك المحصول لتضيفه على إيرادي لتدبر امورنا وهكذا دواليك والحمد لله رب العالمين.
تضيف: استرق ناظري عيناه وقد اغرورقت من الدموع لكنه يمتلك قوة ورباطة جأش ومقومات شجاعة الرجال التي قلما نجدها فيمن هم في عمره، تمالك نفسه اثناء حديثة معي وحبس دموعه وزاد من نبرات صوته بنغمة من يكابح ويكافح ويصد القاهر من الظروف والتعيس من الحظ، (يغير راعي البنك الموضوع): عمتي (أحط لچ) «بنك» بدينار مثل كل يوم؟
نعم.. ولكن تأكد بأنك تختار لي من الصنف الجيد والا يكون قد تسربت اليه أصناف اخرى من البنك الذي لا احبه.. حاضر عمتي.. تختم حديثها لي وهي تقول: قمت بتحضير مبلغ خمسين دينارا من حقيبتي لاعطيها اياه تعويضا له عن ايراد الامس ومساعدة له ولأسرته، وعندما أتاني مسرعا ومعه طلبي قال لي: تفضلي عمتي «بنك» بدينار، حينها قمت على الفور بتسليمه مبلغ الخمسين دينارا حيث ادرك بأن هذا المبلغ يفوق ما يستحقه، فرفض رفضا قاطعا تسلمه قائلا: عمتي اعرف لماذا تعطيني هذا المبلغ.. لن آخذه وأشكرك على مشاعرك تجاهي وتجاه اسرتي.
عمتي نحن نسترزق الله لكسب العيش الحلال ولي اخ أيضا يبيع «الرقي» يقف على احد ارصفة مناطق هذا البلد المعطاء ولم نصل الى مرحلة نستعطف بها خلق الله كي (يعطونا فلوس) لذا تفضلي خذي (فلوسچ) !! بعد سماع محاضرته التي احرجني بمعانيها وابعادها تأهبت للهروب بسيارتي من مكانه مع أمنيتي ببقاء (الفلوس) معه ولو قسرا، لكنه سبقني برميها داخل سيارتي ويغادر مسرعا لزبائنه الآخرين لتلبية طلباتهم!! هكذا البعض منهم لكنهم ليسوا جميعا.