عندما نقول إن العقل السليم في الجسم السليم فنحن هنا لا نتحدث عن الغذاء الصحي للجسد وتأثيره على تنشيط خلايا المخ من الناحية الفسيولوجية فحسب، لكن هناك أيضا غذاء آخر للروح التي تسكن الجسد، والذي لا يقل أهمية عن الطعام والشراب ألا وهو غذاء المعرفة.
والمعرفة أو الثقافة هي قاعدة البيانات التي يتم فيها تخزين ما تم اكتسابه من معلومات وتجارب حياتية تشكل الوعي لدى صاحبها، ومن هنا تظهر أهمية الاهتمام بالنشء ومراقبة ما يتم تداوله مجتمعيا من توجهات فكرية ليس بغرض السيطرة والتحكم، لكن بهدف تصحيح المسار وتوجيه النشء الاتجاه الصحيح لينطلقوا في فضاء الانفتاح والإبداع وتبادل المعلومات والخبرات التي تؤتي ثمارها على الوطن مستقبلا بشكل رائع.
لذلك، نجد أن الأمم العظيمة هي الأمم التي لا تهتم بعددها ولا تريد أن تبقى كتجمعات بشرية تشغل حيزا من الفراغ تجيد فنون الأكل والنوم، لكن الأمة العظيمة هي الأمة التي قررت ألا تبقى كما هي، ولكن أن تبقى هي ككيان مبدع نشط متحفز للتغيير نحو الأفضل، هي الأمة التي تقدس قيمة الوقت وتصلح باستمرار من عيوبها بفلاتر الوعي وحب الوطن والانتماء الحقيقي له، الأمة العظيمة هي الأمة التي لا تدفن رأسها في رمال صحراء الجهل والعنصرية والتخلف عن كل ما هو حضاري وحداثي، متخلية بإرادتها عن التنافس في إضافة كل ما هو جديد لخدمة البشرية، لذا نعود الى نقطة البداية في مقالنا عن المعرفة وهي غذاء الروح والوعي والوجدان، ونتساءل: هل الاهتمام بتوعية النشء فقط يكفي لغرس حب المعرفة والقراءة والموسيقى والبحث العلمي في نفوس أجيال المستقبل؟!
الحقيقة أنا لا أرى في ذلك، إلا أنه حرث في بحر لن يؤتي بنتيجة مأمولة طالما أن الآباء يخاصمون هذا التوجه في تربية أبنائهم على حب القراءة والمعرفة وإعمال ملكات العقل، وذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن منظومة التعليم لا تزال قائمة على الحفظ والتلقين، فهي مسؤولية مشتركة بين الحكومة والأسرة، ولا ذنب للصغار لأنهم سيشيبون على ما شبوا عليه، ومن البديهي أن المعرفة والثقافة في أي مجتمع علاقات إثنية متعددة، أهمها الآباء/ الأبناء (كل مراحل الحياة)، المعلم/ التلميذ أو الطالب (كل مراحل التعليم، الإعلاميون/ والمشاهدون والمستمعون والقراء (الخطاب الإعلامي العام والخاص)، أئمة المساجد والدعاة/ المصلون ومرتادو دروس المسجد (خطبة الجمعة والمحاضرات الدينية بعد التسليم من الصلاة).
هنا نجد أن وضع خطة للنهوض بأي مجتمع معرفيا لا بد وأنها تبدأ بتوعية الآباء أولا بحكم الملازمة والمتابعة الدقيقة وأهمية تثقيفهم حتى لا تكون الأسرة في أقصى اليمين أو أقصى اليسار أو لا تعرف يمينا من يسارا.
لذلك، أرجو أن نعي ذلك جيدا أن أي محاولة للاهتمام بتوعية أطفالنا وشبابنا من دون الاهتمام أيضا بتوعية الآباء بمحاضرات دائمة عن أساليب التربية السليمة لن تجدي نفعا، لأن تأثير الآباء على أبنائهم يتخطى بمراحل أي محاولة تغيير خارج جدران المنزل، لأن نقطة البداية هي الأسرة.