إن الحديث عن مستقبل الديموقراطيات في العالم، حديث ممتد، ومتشعب، وقد تحدثت فيه غير مرة، وفي أكثر من مناسبة.. من خلال أكثر من مقالة إحداها مقالتي عن الحرب العالمية الثانية، وما جرته من ويلات، وأنه يجدر بنا أن نتعلم من دروسها، كي نتفادى حربا جديدة.. ومن دروسها نشأة نظام الديموقراطيات الذي حافظ على اتحاد العالم، بدلا من الانشقاقات التي أدت إلى إشعال الحرب. كما تحدثت في مايو من عام 2020 عن أزمة الديموقراطية وأنها في خطر.
لقد فقدت الديموقراطية مرجعيتها، منذ بداية العقد الثاني من هذا العام في مواجهة الشعبوية، نظرا للظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم في هذا العام من وباء وأزمات اقتصادية وصحية كشفت عيوبا كثيرة في النظام العالمي، وأصبحنا نعيش في عالم ليس فيه نظام عالمي ولا قيادة عالمية.
وهذا ما أعاد التحدث به الرئيس الأميركي المنتخب (جو بايدن) بعد تبرئة سلفه (دونالد ترامب) أمام مجلس الشيوخ قائلا: «إن ما جرى يذكرنا بأن الديموقراطية هشة.. وتحتاج لمن يدافع عنها».. وورد حديثه هذا في مقال نشرته الـ BBC العربية بتاريخ 14 فبراير من عام 2021.
كما أعاد التأكيد على هشاشة الديموقراطية في مقال نشره موقع الخليج بتاريخ 19 من الشهر والعام نفسهما قائلا: «إن الكرملين يهاجم ديموقراطياتنا ويريد إضعاف مشروعنا الأوروبي وحلفنا في شمال الأطلسي.. من خلال تقويض عزيمتنا، فمن الأسهل عليه ترهيب دول وحيدة بدلا من التفاوض مع مجتمع عابر للأطلسي قوي وموحد».
كما يشير (بايدن) إلى عزم واشنطن استعادة ثقة أوروبا، محذرا من العودة إلى تكتلات الحرب الباردة، وهذا ما كنت قد حذرت منه سابقا عندما تحدثت عن ضرورة الاستفادة من دروس الحرب العالمية الثانية، كي لا تقوم حرب عالمية ثالثة.
إن تعرض الديموقراطيات إلى خطر تمدد الشعبوية يهددها بالزوال، إن بقيت الديموقراطية على حالها ولم تجد من يدافع عنها، خصوصا ونحن نعلم أن الولايات المتحدة هي التي يعدها العالم المهد الأول لها! ولا ننس أننا أمام موجة شعبوية تغزو العالم، وترتبط بملامح اجتماعية، وأخرى نفسية وترتبط بأنماط سياسية لا تعزى لأيديولوجيات سائدة كالاشتراكية، أو الليبرالية أو سواهما.
لا ريب في أن الديموقراطية عمل شاق، وأننا كلما همشنا النخب المجتمعية، ازدادنا قناعة بأن فئات الشعب التي تريد «استبدال المواقع» غير مجهزة معرفيا.. وأما الولايات المتحدة وبعدها المهد الأول والمدافع عن الديموقراطية في العالم، فعليها الصحوة والدفاع عن ديموقراطيتها كي لا تتراجع هيبتها وتفشل مسيرتها.. فالشعبويون في الانتظار ويدعون بأنهم في مركز وسطي بين اليسار واليمين، وقد ارتفعت أسهمهم، وازداد الاهتمام بدعوتهم وبظهورهم.. وقياسا إلى العصر الذهبي للديموقراطية عام 1945 عندما لم تتجاوز ديموقراطيات العالم أكثر من 12 ديموقراطية، نرى كيف ارتفعت أعداد الدول التي تنتهجها مع نهاية القرن إلى 87 دولة على مستوى العالم.. ولكن مع الأسف فقد انقلبت الأحوال في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وتوقف الدخول في طريق الديموقراطيات لصالح الشعبوية.
الديموقراطية ليست لعبة، ويتطلب الدخول في سباقها احتراما متبادلا لذوي الآراء المختلفة، كما يتطلب تحديد جيد المعلومات والأخبار من رديئها، والتزام الانضباط، واتباع المنطق.. أما في ظل سيادة وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد العالمي اليوم فكم يعد صعبا على من يمتلك مدونة أو منصة أن يرفع من يريد أو يذم من يريد! وينشغل الناس في أخبار مكذوبة أو مصنوعة ويصعب عليهم التمييز.. وإنه في الوقت الذي تتطلب فيه الديموقراطية العديد من التحضيرات والمتطلبات والركائز من الدولة وأبنائها، تكتفي الشعبوية بمطلب واحد هو الولاء الجماهيري.
لقد زادت تلك المقارنة من حجم التشاؤم لدينا من رجوع الديموقراطية إلى سابق عهدها.. وزيادة الإيمان بمقوماتها، وما ستجلبه من خير.. بل إن مستقبل الديموقراطية اليوم في خطر ليس بسبب ما ذكره الرئيس بايدن، وما كنا قد تحدثنا به مرارا، بل بسبب خوف الناس من المستقبل الضبابي الذي ينتظرهم في أوطانهم! وارتفعت الأصوات بعد الإغلاقات والحظر الشامل بسبب الوباء بالشعارات التي تعلي من قيمة (الأنا) على حساب الشعارات التي تعلي من قيمة (نحن).. وهذا ليس من الديموقراطية في شيء، فالعالم لنا جميعا.. وليس لأحد فضل على آخر ولا لدولة فضل على أخرى في استمرار معيشتنا وازدهارها.
[email protected]