مرت الأيام وتوالت السنون وطال الفراق ثلاثة أعوام كاملة، لكن الذكرى مازالت باقية، حية نابضة، نقية طاهرة، حافلة بالذكريات والمواقف والسمعة العطرة والصيت الطيب والعمل الصالح والخير المستمر الذي لا يتوقف ولاينقطع.
وكما أن الاشجار تعيش باسقة وتموت واقفة فإن هناك نوعا من الرجال - بل من الرجالات - لا ينتهي عطاؤه برحيله عن الحياة بل يمتد أصولا وفروعا، وأقوالا وأفعالا، فشجرة الخير لا تموت بل تمتد سلسالا من الأبناء والأجيال، لتبقى علامة بارزة على العطاء، ورمزا للأصالة وكرم المنبت والمنشأ والبداية والنهاية وما بينهما من مسيرة عامرة بالانجاز، حافلة بالخير والعطاء والنخوة والجرأة وشجاعة وشهامة الرجال.
لا أدري ماذا أقول عن الحبيب الغالي والعم الراحل خالد يوسف المرزوق في ذكرى رحيله الثالثة، فأفعاله وأعماله، وما أكثرها وما أوقعها وما أبرزها تُغني عن القول ولا تحتاج الى ذِكر أو الى تذكير.
كما أنني لا أرى مبررا للحديث عن الرجل الكبير بقامته، الكريم بمكانته، الأصيل بسمعته، لا أرى مبررا للحديث عنه، بقدر ما أشعر برغبة عارمة في الحديث إليه. فكم أفتقر - أنا ومعي الكثيرون - الى حديثه وكلماته عن الماضي والحاضر والمستقبل. كم أتوق الى أن أسمعه وأنصت اليه وأحظى برؤيته الثاقبة بعيدة النظر لما حدث ويحدث وسيحدث من حولنا.
وإذا كان رحيل العم العزيز وفراقه لنا يقف حائلا أمام تحقيق ما نتوق شوقا اليه، فلا أقل من أن نتحدث نحن إليه. قد يكون حوارا من جانب واحد، وقد يكون حديثا بلا إجابة، لكنها تبقى رسالة إليه.. بل مجموعة رسائل متفرقة وموجزة وقصيرة، بعضها ذكريات، وبعضها مواقف، وبعضها شجون وشؤون. قد تكون فقرات متناثرة لا يجمعها رابط زماني أو مكاني. وقد تكون في حقيقتها حديثا مع النفس، لكنها من حيث الرغبة والغاية.. رسالة إليه.
رحلة الشتاء
في مثل هذه الأيام من كل عام كنت تجيء الى مصر التي تحبها. كانت عادتك التي لا تنقطع أن تستقبل كل سنة جديدة على أرضها مع مجموعة من أصدقائك المقربين. ولم يكن يحول بينك وبين هذه العادة الدائمة سوى ظروف قهرية مرضية أو عائلية أو خارجة عن الإرادة.
كنت تأتي الى مزرعتك على ضفاف النيل في منتصف أو أواخر شهر ديسمبر وتستمر زيارتك شهرا أو بعض شهر، وفي بعض الأحيان كنت تمتد بالزيارة أسبوعا أو أسبوعين، وفي أحيان أخرى يشتد شوق الأبناء والأحفاد إليك فيستعجلون عودتك الى الكويت.
كانت هذه الزيارة السنوية أشبه باستراحة محارب، تخلد فيها الى الاستجمام والتأمل والتفكير والتروي. كانت أشبه بـ «بانوراما» شاملة تسترجع فيها ذكريات وإنجازات ومواقف سنة مضت، لتبدأ من حيث انتهت رؤيتك لعام جديد تخطط له قبل أن يبدأ، وتمهد له قبل أن يتحول التخطيط الى تنفيذ.
لا يعنيني هذا الخوض في تفاصيل هذه الزيارات السنوية المتعاقبة، لكن ما يعنيني هو ما تمثله من ظلال وانعكاسات في محيطها المكاني وما حولها. فقد كنت - رحمك الله - من الذين يحلون بالخير حيث تحط رحالهم. لم أذكر ذلك في حياتك لأنك لا تحب ذلك كما أنني لا أحبه أيضا، لكنني أذكره اليوم بعد رحيلك، وبثلاث سنوات كاملة.
قد لا يعلم الكثيرون أن مزرعتك على نيل مصر، التي أشرفت بنفسك - كعادتك دائما - على بنائها طوبة طوبة ولبنة لبنة.. قد لا يعلم الكثيرون أنها تقع في منطقة ريفية، أهلها بسطاء. وكانت رحلتك السنوية بالنسبة لهؤلاء البسطاء عامرة بالخير والعطاء، دون أن يشعر أحد ودون أن يعلم أحد. بل إن هذا العطاء كان يمتد في أحيان كثيرة ولأسر بعينها الى عطاء شهري دائم، وكله في الخفاء حرصا على كرم العطاء وكرامة المحتاجين.
ويشهد الله أن ذلك لم يكن شيمتك وحدك، بل كان شيمة كل أفراد أسرتك وعائلتك الكريمة. كما أن هذا العطاء مازال مستمرا حتى اليوم. قد لا يكون مرتبطا بهذه الزيارات السنوية التي انقطعت برحيلك، لكنها عطايا قائمة ودائمة على مدى العام بكامله، فالخير كما قلت سلسال طويل تمتد مسيرته أصولا وفروعا عبر الأبناء والأحفاد.
أيام لا تنسى
لا شك أن أيام الاحتلال الصدامي الآثم للكويت الحبيبة تظل محفورة في الأذهان، ولا جدال أنك كنت من أبرز من يتذكرها وقد عشت كل تفاصيلها وخباياها يوما بيوم خاصة أنك كنت قريبا من الأحداث، ومن مواقع القرار الكويتي نضالا نحو التحرير.
لكن ما أتذكره أنا عن ظهر قلب هو الأيام الأولى لهذا الاحتلال الغاشم، التي كنت فيها على اتصال دائم بك بشكل مباشر على مدى أسبوعين قبل الغزو، وعبر الهاتف في الأيام الأولى للاحتلال، كنت تشعر بالخطر الداهم منذ بدأت مؤشرات الغدر تلوح في الأفق تهديدا وتلميحا من غزاة الشمال، وكنت ترى أن الأمر أكثر من جدي وأكبر من مجرد مناوشات على الحدود أو خلاف على حقل بترولي، وأخطر من مجرد مغامرة طائشة من المغامرات والمقامرات الصدَّامية الآثمة، كنت ترى الأحداث تتدافع عبر الأسبوعين الأخيرين من شهر يوليو 1990 بشكل غير طبيعي وأنها تنذر بمؤامرة كبرى قد تقلب المنطقة رأسا على عقب.
وحدث ما حدث.. ووقعت الواقعة وتحولت الحماقة الصدَّامية الغادرة المجرمة إلى كابوس على الكويت وعلى المنطقة كلها، وظللت تتابع من منزلك في «الفنطاس» الساعات الأولى للزحف الإجرامي القادم من الشمال إلى قلب العاصمة، لتغادر «الفنطاس» في المساء إلى «الخيران» لتتابع من هناك اتصالاتك داخل الكويت وخارجها، وخاصة مع معارفك وأصدقائك في المملكة العربية السعودية الشقيقة، وأعلم يقينا أنك ساهمت في تأمين خروج العديد ممن تعرفهم ومن لا تعرفهم إلى المملكة عبر حدودها مع جنوب الكويت، حيث كنت موجودا هناك، وحيث كنت على اتصال هاتفي معي، تتابع ما يحدث وما أنقله إليك، وأنا في مقر جريدة «الأنباء» بالشويخ، مما تبثه وكالات الأنباء قبل انقطاع هذا البث ومما تتناقله الإذاعات، ومما يصل إلينا من أخبار عما يقع داخل «الديرة»، ويشهد الله أنه لم يكن يفوتك وسط تلك الأحداث الجسام أن تطمئن على كل من يعملون معك، ليس في جريدتك «الأنباء» وحدها ولكن في كل شركاتك ومشاريعك.
كانت الأحداث تتوالى بشكل مأساوي مخيف، وكانت الأمور تتداعى من سيئ إلى أسوأ، ولست هنا في مجال سردها أو استرجاعها، لكن ما يعنيني هنا وما أود أن أركز عليه، هو أنه برغم قتامة المشهد وخطورته الداهمة فقد كنت أيها العم العزيز الراحل صامدا كالجبل، وكنت واثقا من تحرير الكويت منذ اليوم الأول لاحتلالها، وكنت أشعر بالدهشة من هذه الثقة اليقينية التي لم أكن وقتها أجد أي مؤشرات عليها، لكن وكما ثبت فيما بعد، فقد كنت تنظر إلى الأمور في إطار إقليمي وعالمي كبير، وكنت ـ كعادتك ـ تنظر إلى الحاضر بعين المستقبل.
المهم أنك غادرت «الخيران» إلى المملكة الشقيقة، وكانت آخر مكالماتك الهاتفية معي أن أطمئن كل الزملاء وأن اطمئن عليهم، مؤكدا في ثقة ويقين أن الكويت ستعود حرة محررة، وأن الأمور مهما كانت قسوتها فسينقلب فيها السحر على الساحر والغدر على الغادر والإثم على الآثم.
غادرت يومها أيها العزيز الراحل أرض الكويت الحبيبة إلى المنطقة الشرقية بالسعودية، لتنتقل بعدها إلى مدينة «الطائف» حيث كان المقر المؤقت للحكومة الكويتية بقيادة صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح ومعه سمو ولي العهد وقتها الشيخ سعد العبدالله الصباح وسائر الوزراء والمسؤولين.
وظللت في «الطائف» إلى جانبهم، تتابع وتشارك بقدر ما تمتلك من جهد وفكر ورأي وحكمة، حتى تحقق «التحرير» الذي كنت مؤمنا به وموقنا به منذ اليوم الأول للاحتلال وحتى آخر يوم فيه.
الإنسان.. والعقار
ليس جديدا أنك أحد رواد النشاط العقاري والعمراني في الكويت، فهذه حقيقة يعلمها الجميع ويشهد بها القاصي قبل الداني، وليس جديدا أيضا أنك أبرز المؤسسين للبنك العقاري انطلاقا من أن التمويل هو أحد أسس التنمية العمرانية والعقارية فضلا عن أنه دعامة انطلاقتها وتوسعاتها، وليس جديدا كذلك أنك صاحب الفكر المستقبلي في الإعمار والتعمير سواء تمثل ذلك في «لؤلؤة المرزوق» بما كانت تشكله من نوعية جديدة وقتها في الإسكان المتكامل والمتطور، وسواء تمثل أيضا في مواقف السيارات متعددة الطوابق، أو في «أسواق الكويت» التي كانت نواة مبكرة في السبعينيات لظاهرة «المولات» التي تنتشر الآن في كل مكان، كما أنه ليس جديدا طبقا لهذا الفكر العمراني المتقدم أنك صاحب فكرة ومشاريع المدن البحرية وما تمثله من نظرة مستقبلية لا تنفصل عن ارتباط المواطن الكويتي الأصيل بالبحر، كل ذلك ليس جديدا لأنه معروف عنك ومشهود به لك، لكن الذي أود أن أتحدث إليك ومعك فيه هو الجانب الإنساني للنشاط العقاري. لا أقصد بذلك الاهتمام الإنساني بمالك أو ساكني العقار، لكنني أعني به أيضا الجانب الإنساني لصانع العقار، وهو في نظري المهم والأهم والذي تنفرد أنت به عملا وفعلا وأسلوبا وأداء.
إن تعاملك أيها الحبيب الغالي مع مهندسيك وعمالك ببساطة وعفوية هو من أهم أسباب نجاح مشاريعك العمرانية حتى من قبل أن تبدأ. واذكر أنك في أحد أحاديث الذكريات قلت إنك كنت تقف وسط عمالك البسطاء وأنتم تبنون «لؤلؤة المرزوق».. كنت تقف معهم وتباسطهم الحديث، بل وتشاركهم الطعام، وأكثر من ذلك أنك كنت تبيت أحيانا في موقع العمل إذا تطلب الأمر ذلك.
وبرغم اتساع مشاريعك ومسؤولياتك فقد ظل ذلك هو دأبك في العمل وأسلوبك في الإدارة وطابعك في البناء والتشييد. تشرف على كل شيء بنفسك مهما كان صغيرا، ليس بدافع عدم الثقة في الآخرين، ولكن بمبدأ أن «المشاركة» في العمل هي من أهم أسباب نجاحه، وأن «التعامل الإنساني» هو المقوم الأول للنجاح، ارتباطا مع الناس وحبا لهم وإيمانا بهم وتباسطا وتواضعا معهم.
رجل الأعمال ورجل الإعلام
لم أشرف بأن أكون ممن شهدوا مرحلة تأسيس جريدة «الأنباء» أو شاركوا في هذا التأسيس عام 1976، فقد انتقلت للعمل بها بعد ذلك بست سنوات كاملة، لكن الذي أعلمه أنك - رحمك الله رحمة واسعة - كنت صاحب فكرة تأسيسها انطلاقا من إيمانك بأهمية الإعلام، وبضرورة وجود منبر إعلامي يخاطب الرأي العام ويتحسس نبضه واتجاهاته ويعبر عنه ويتأثر به ويؤثر فيه.
وبرغم علمي أنك اكتفيت في مرحلة التأسيس بوضع خطوط السياسة العامة للجريدة إدارة وتحريرا دون أي تدخل في التفاصيل التنفيذية، إلا أن تجربتي في العمل ضمن أسرة «الأنباء» على مدى ما يقرب من عشرين عاما أكدت لي أنك لم تكن بعيدا عن «الإعلام» بقدر ما أنت قريب منه، ومُلم بالكثير من خصوصياته.
ما أود أن أقوله هو أنك لم تكن مجرد رجل أعمال يملك صحيفة يومية، بل كنت رجل أعمال ورجل إعلام في وقت واحد. لا أبالغ ولا أجامل ولا أنافق في ذلك، ولا أعني برجل الإعلام أن يكون محررا متخصصا أو صحافيا متمرسا، ولكني أعني بذلك أن يكون ذا حس إعلامي مرهف، وأن يكون مُلما بالإعلام كمهنة وحرفة وصناعة ورسالة.
وأعترف أيها العم الجليل والوالد الحقيقي والروحي لجريدة «الأنباء»، أنني حين اقتربت منكم بحكم طبيعة العمل الصحافي اليومي، فوجئت، واعذرني في كلمة فوجئت، بأنك قارئ نهم ومتابع متمرّس لكل ما يجري في أروقة الصحافة المحلية والعربية، وكل ما يُكتب فيها، إلى الحد الذي أصبحت معه ضالعا في تحليل هويّاتها وهويّات كُتّابها وحملة أقلامها، سواء في ذلك الصحف الكويتية أو المصرية أو اللبنانية أو ما عداها من كبرى الدوريات العربية.
أكثر من ذلك، وحتى لا يقول أحد إنني أنافق وأجامل، فإن كثيرا من الحملات الصحافية ذات الطابع الشعبي التي تبنتها «الأنباء» كانت بتوجيه منك. كذلك فإن استكتاب بعض الكُتّاب المتميزين ودعوتهم للانضمام إلى أسرة كُتّاب المقالات في «الأنباء» كان بترشيح منك بعد أن أعجبت بمقالاتهم وبأسلوب كتابتهم إلى جانب حسهم الوطني، فضلا عن حرصك على أن تكون «الأنباء» منبرا لكل الاتجاهات والتيارات الفكرية.. منبرا يتسع للجميع ويستوعب الجميع دون احتواء أو التواء أو انحراف عن طريق.
وأذكر أيها العم العزيز الراحل أن بعض رفاق القلم من كُتّاب «الأنباء» المتميزين واللامعين كانوا يخبرونني بأنه عند لقاءاتهم بالمصادفة معك في مكان عام أو ندوة أو حفل أو ديوانية، كنت تحاورهم في بعض مقالاتهم مما يؤكد متابعتك لها بتمعّن واهتمام. ولم يكن حوارك معهم مقصورا على مضمون الرأي لكنه كان يتطرق أيضا إلى بعض الجوانب المهنية والإعلامية والحرفية.
يُضاف إلى ذلك أنك لم تكن بعيدا عن الأوساط الصحافية العربية، فقد كانت لك معارف تصل إلى حد الصداقات مع بعض كبار الصحافيين العرب، وأخص منهم المصريين واللبنانيين، من الجيل الماضي وجيل الوسط كما نُطلق عليه في مجتمعنا الإعلامي.
ما أود أن أقوله أنك - رحمك الله - برغم مشاغلك في سوق الأعمال والإعمار والعقار، لم تكن بعيدا عن حقل الإعلام، إن لم تكن في الحقيقة قريبا منه إلى حد المعايشة والمشاركة.
زرعت فحصدت
تبقى كلمة أخيرة أقولها في ختام رسالتي أيها الحبيب الغالي والعم الراحل.. لقد زرعت فحصدت.. زرعت خيرا كثيرا وحصدت سمعة طيبة عريضة لا يختلف عليها أحد.. زرعت عملا دؤوبا ومشاريع كثيرة.. زرعت عمرانا واسعا وأفكارا طموحة وحصدت ما وفقك الله إليه، وهو أن ترى مخططاتك وأحلامك واقعا على الأرض، وشواهد على العصر، ونماذج تُحتذى وتجارب تُقتدى.
زرعت المحبة في القلوب والخير في النفوس وحظيت بتقدير كل من عرفك من البشر.. يذكرونك دوما بالخير مهما طال الفراق وتباعدت السنون.
زرعت وحصدت أسرة كريمة تواصل المسيرة.. مسيرة النجاح في العمل والأصالة في السلوك والأداء، والكرم في الخير والعطاء.