بيروت: دخل الرئيس نبيه بري موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية كأقدم رئيس للمجلس النيابي مازال ثابتا ومستمرا في موقعه متربعا على كرسي رئاسة المجلس منذ ما يزيد على ربع قرن، ومن دون توقف وانقطاع، والمجال مفتوح أمامه لتعزيز هذا الرقم بأن يبقى رئيسا للمجلس النيابي الذي سينتخب العام المقبل، إذ لا مرشح آخر ينافس رئيس حركة «أمل»، وإذا وجد فلا أمل له.
لم يكن نبيه بري ليستمر كل هذه الفترة الطويلة وليكون وحده الثابت وسط متغيرات في العهود والمعادلات الداخلية والإقليمية، لو لم يكن متمتعا بمقومات وعناصر قوة ذاتية أكسبته هذه القدرة على الصمود والثبات والتكيف مع كل أنواع الأزمات. ولطالما كان الرئيس بري شريكا أساسيا في إدارة الأزمات والتوازنات وضبط إيقاع الخلافات واجتراح الحلول وإخراج «الأرانب» من أكمامه. هو صاحب الأفكار الخلاقة والحنكة السياسية المتمرسة بالتجربة والمكتسبة خبرة غنية، وهو الذي وصف في كثير من المراحل بأنه «صمام أمان» سياسي ومساهم أساسي في حفظ الوحدة الوطنية وخط «الاعتدال والانفتاح».
لم يضعف الرئيس بري يوما ولم تبهت صورته في كل الفصول. الخروج السوري من لبنان لم يحدث تغييرا يذكر في دوره، وبالتأكيد لم يحدث أي تغيير في موقعه.. وعندما كان الانقسام الوطني والسياسي حادا وعموديا بين فريقي ٨ و١٤ آذار ظل بري، ورغم أنه من أركان ٨ آذار، يقيم جسر علاقة مع أقطاب ١٤ آذار وفي مقدمتهم سعد الحريري، إضافة الى أمين الجميل وميشال المر وبطرس حرب، إضافة الى حليفه التاريخي وليد جنبلاط.
لم يفكر فريق ١٤ آذار مرة في تغيير رئاسة مجلس النواب وإزاحة بري.. فمن جهة لدى هذا الفريق نقطة ضعف تجاه بري ولم يكن لديه وما زال من خيار شيعي أفضل، ومن جهة ثانية يتمتع بري بتأييد ثابت من حزب الله الذي ليس لديه من مرشح شيعي آخر لرئاسة المجلس مكرسا بري مرشحا وحيدا و«مدى الحياة» ودائما لأسباب عدة لا تتصل فقط بأدائه وخبرته وقدرته في إدارة اللعبة السياسية، وإنما بالوضع والتوازن في الطائفة الشيعية وضرورة إبقائها موحدة متماسكة، وهي المقيمة دائما، وعلى الأقل منذ العام ٢٠٠٥، على صفيح ساخن من التحديات والمخاطر.
كان فريق ١٤ آذار مأخوذا بالرئيس بري مبهورا به الى درجة أنه كان يتفادى استفزازه ومحاربته، وهذا ما أدى إلى صدمة وخيبة عميقة لدى خصوم بري حلفاء ١٤ آذار من الشيعة أو من كانوا يسمون «شيعة ١٤ آذار»... ولم يدرك هذا الفريق إلا متأخرا أن الرهان على بري لمواجهة حزب الله وعلى حدوث انفكاك بينهما كان رهانا خاطئا وفي غير محله... تماما مثلما اكتشفت دول عربية وخليجية التي كانت تعول على دور للزعيم الشيعي المعتدل في كبح جماح الحزب الشيعي المتطرف بأن بري لا يمكن أن يؤدي دورا ضد حزب لله وأن يكون سببا أو مسببا لشرخ وانقسام شيعي.
لم يواجه بري طوال حياته السياسية ما واجهه في العامين الماضيين من تحديات. فبعد إدارة سياسية متقنة لفترة الفراغ الرئاسي كان في خلالها يشرف على حوارين في عين التينة: حوار وطني متقطع للتمهيد للتسوية الرئاسية، وحوار ثنائي منتظم بين حزب الله والمستقبل، هو الحوار الشيعي ـ السني الوحيد في المنطقة، عرف بري أول خسارة سياسية فعلية عندما خسر معركة رئاسة الجمهورية بأن أخفق في إيصال مرشحه المفضل «سليمان فرنجية»، وبأن أخفق في منع وصول الرئيس الذي يرفضه وجاهر في الموقف ضده حتى في جلسة انتخاب «ميشال عون».
لكن بري لم يتأخر في تعويض ما خسره وفي رد اعتباره السياسي بمبادرة ودعم من حزب لله الذي أوكل إليه مهمة التفاوض في عملية تشكيل حكومة الحريري، وخاض بشكل خاص معركة تثبيت وزارة المال في يده ومعركة فرنجية وتحصيل وزارة أساسية له... كما أوكل إليه لاحقا وحصرا مهمة التفاوض في ملف قانون الانتخاب ونقله من ضفة النظام الأكثري إلى ضفة النظام النسبي والى شاطئ الأمان. وفي خلال معركة قانون الانتخاب:
٭ أصيب بري بخيبة من الرئيس سعد الحريري هي الثانية له بعد «الخيبة الرئاسية» (انتقاله في معركة رئاسة الجمهورية من فرنجية إلى عون ومن دون التنسيق معه)... مرة جديدة أدار الحريري ظهره لبري وفضل السير والتنسيق مع رئيس الجمهورية مساهما بشكل أساسي في «تطيير» مشروع التمديد الذي عمل عليه بري كخيار أول ومنحازا إلى المشروع التأهيلي الذي اقترحه جبران باسيل ورفضه بري بشكل قاطع.
٭ اكتشف بري صعوبة الاتفاق مع باسيل الذي أدار التفاوض بصفة مزدوجة كممثل لرئيس الجمهورية وكممثل للفريق المسيحي في الحكم... فلم يجد بري طريقة للتعامل مع ما اعتبره طروحات استفزازية من جانب باسيل، ولكنه لم يكن منزعجا ولا متضررا منها وإنما كان مستفيدا لأنها أعادت شد العصب الشيعي من حوله وأحدثت بلبلة في الوسط الشيعي الى حد بدأت تطرح تساؤلات عن صوابية خيار حزب لله في تأييد الرئيس ميشال عون مادام أن «رئيس الظل» هو جبران باسيل الذي كاد بأدائه أن يبدد ما بناه عون طيلة عشر سنوات من علاقة تحالفية وطيدة بين الشيعة والمسيحيين أو شريحة واسعة وأساسية فيهم.
٭ تأكد لـ «بري» أن جنبلاط هو الحليف الدائم والمخلص له رغم تقلباته مع الآخرين، وأنه يستأهل الدعم في قانون الانتخاب وحفظ خصوصيته ومصلحته ومراعاة وضعه الدقيق في الجبل الجنوبي (الشوف وعاليه).
٭ اكتشف بري أن هناك إمكانية لبناء علاقة جيدة ومنتجة مع القوات اللبنانية بعد تجربة التعاون الناجحة عبر النائب جورج عدوان وما عكسته من سلاسة ومصداقية سياسية، وحيث كان للقوات دور أساسي في تحوير مسار. معركة القانون والتخفيف من تحكم باسيل بها وتغليب مشروع النسبية بالدوائر الـ ١٥.
الرئيس بري يقف بعد معركة قانون الانتخاب ورئاسة الجمهورية أمام واقع جديد... هو قرر أن يضع خطا بين مرحلتين وأن يفتح صفحة جديدة مع الرئيس ميشال عون مثبتا أنه جزء من العهد وأنه لا صحة لما يقال إنه يريد إفشاله، وأن يفتح صفحة جديدة أيضا مع التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل تترجم في «ورقة تفاهم» تغطي المسائل ذات الاهتمام المشترك وفي صلبها موضوع النفط... أما الانتخابات النيابية، فإنها لا تشكل مصدر قلق لدى بري المطمئن إلى ثبات تحالفه مع حزب لله وثبات موقعه في رئاسة المجلس والمطمئن إلى وضعه والنتيجة التي سيحصل عليها مع القانون الجديد، وحيث ستكون الساحة الشيعية الأكثر استقرارا والأقل عرضة للتغيير في معادلتها ووجوهها.
وربما يكون مستقبل حركة «أمل» هو الهاجس والهم الأساسي هذه الأيام عند الرئيس نبيه بري الذي لم يطلق أي مؤشر واضح باتجاه مستقبلها.
إقرأ أيضاً