كُتب لـ «تيار المستقبل» عمر جديد عندما عاد رئيسه سعد الحريري الى رئاسة الحكومة.
هذه العودة كانت بمثابة «إنعاش وتعويم» لـ «المستقبل» بعد فترة من الضمور ومسار انحدار امتد لخمس سنوات وكانت النتيجة أن الحريري صرف كثيرا من الرصيد السياسي والشعبي والمالي الذي ورثه عن والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري ويكافح بكل الوسائل المتاحة لوقف دورة التراجع والخسائر.
عاد الحريري الى لبنان في ظل أوضاع جديدة وأشياء كثيرة تغيرت: الحرب السورية طالت أكثر من المتوقع وسقوط نظام الأسد لم يحصل.
تحالف 14 آذار الذي أطلق شرارته اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري تصدع وتفكك ولم يعد موجودا. حزب الله أمسك تدريجيا بزمام القرار والأمور وصار أمرا واقعا.
أدرك الحريري أن عودته الى الحكم ليست ممكنة من دون أثمان سياسية «باهظة» وتغييرات في خياراته وسلوكه السياسي، وقرارات صعبة وموجعة ومكلفة شعبيا. كان عليه أولا أن يضع المحكمة الدولية جانبا ويترك لقضية اغتيال والده أن تأخذ مجراها القضائي من دون أي توظيف أو استثمار سياسي.
وبعد الفصل بين المسارين القضائي والسياسي في هذه القضية، كان عليه الفصل بين المسارين اللبناني والسوري، فيوافق على شراكة حكومية مع حزب الله وعلى فتح حوار ثنائي معه من دون اشتراط وقف تدخله العسكري في سورية، ومن دون انتظار عودته من هناك. ولكن الفصل الأصعب كان في الداخل اللبناني بين الاستراتيجية والتكتيك، بين الثوابت والمتغيرات، والتكيف مع «واقع حزب الله» مع ما يقتضيه ذلك من تنازلات.
التنازل الأوضح والقرار الأصعب كان في معركة رئاسة الجمهورية عندما قرر الحريري الانتقال الى خيار رئاسي من فريق 8 آذار مسلما بانسداد أفق أي مرشح من 14 آذار وأيضا الرئيس التوافقي الوسطي. أدرك الحريري أن تأييد انتخاب «العماد ميشال عون» هو الثمن الذي لابد منه لعودته الى الحكم، وأن الطريق الى السرايا الحكومي متعرجة وتمر عبر الرابية وحارة حريك.
وكان الحريري في أتم الاستعداد لدفع هذا الثمن وللدخول في مخاطرة سياسية رغم معرفته أن القواعد الشعبية في المستقبل وفي الشارع السني غير محبذة لهذا التوجه ولمجمل هذه السياسة الجديدة التي لم يألفها منذ العام 2005، فقد كان الحريري في وضع شعبي متراجع كشفته الانتخابات البلدية في طرابلس مع بروز ظاهرة أشرف ريفي.
وكان في «ضائقة مالية» تزداد شدة وتحرمه من أحد مصادر وعناصر القوة لديه، وكان يعاني من وضع غير سليم من تيار المستقبل مع نشوء أجنحة ومراكز قوى وبدأت قبضته السياسية والحزبية تتراخى.
والنتيجة أن الحريري الذي استشعر خطرا ووضعا يحاصره ويضيق عليه لم يجد طريقا للخروج من هذا المأزق إلا بعودته الى رئاسة الحكومة مهما كلف الأمر. فالمعادلة واضحة: عودته الى الحكم ستكون بداية جديدة له.
وعدم عودته ستكون بداية نهايته. من المهم أن سعد الحريري عاد الى رئاسة الحكومة بغض النظر عن الثمن الذي دفعه. ولكن الأهم هو أن يبقى في رئاسة الحكومة ولا يضطر الى المغادرة من جديد فيكون هو المتغير ورئيس الجمهورية هو الثابت.
الحريري عاد الى رئاسة الحكومة بموجب تسوية سياسية مثلته الأطراف (عون الحريري حزب الله) ومثلته الأضلاع (رئيس جمهورية حكومة قانون انتخابات).
ولكن هذه التسوية مفصلة على قياس مرحلة موقتة وتنتهي مفاعيلها مع الاتفاق الذي حصل على قانون الانتخاب الجديد.
وسيكون على الحريري، الذي لم يحصل على تعهد من حزب الله باستمراره رئيسا للحكومة في حكومة ما بعد الانتخابات، أن يربح الانتخابات النيابية المقبلة ويثبت وجوده وتفوقه فيها حتى يظل المرشح الأقوى لرئاسة الحكومة المقبلة ويضمن استمراره حتى نهاية العهد.
هذه المهمة، مهمة الفوز بالانتخابات ليست سهلة وإنما محفوفة بالتحديات والصعوبات:
٭ من جهة، «قانون النسبية» الجديد أعاد خلط أوراق التحالفات واللوائح ولا يتيح لـ «المستقبل» التحكم المسبق بالنتائج ويفتح ثغرة لخصومه على الساحة السنية أن يحجزوا لهم مكانا ويقتطعوا حيزا، ولحلفائه المسيحيين أن يفكوا ارتباطهم به ويقتطعوا كامل حصتهم.
٭ من جهة ثانية، الوضع الشعبي للحريري ليس في أفضل حال حتى لا نقول إنه في أصعب حال. وهناك أسباب وعوامل كثيرة تضافرت وأدت الى هذا التراجع وهذا النزف في الشعبية.
من أبرز هذه الأسباب والعوامل:
٭ التغييرات الحاصلة في تيار المستقبل وأسفرت عن تسلم جيل جديد «شبابي» على حساب رموز وكوادر قيادية من «جيل المؤسسين».
وهذا التغيير وصل أيضا الى رأس الهرم، وتحديدا الفريق الاستشاري المحيط بالحريري، والذي يعد الحلقة الضيقة ومركز القرار. وهذا الفريق بات فيه نادر الحريري رقم واحد ويضم: نهاد المشنوق غطاس خوري عقاب صقر باسم السبع هاني حمود.
وليس من ضمنه الرئيس فؤاد السنيورة المستمر في «منصب شرفي» كرئيس لكتلة نواب المستقبل، ولكن حتى استمراره في هذا المنصب لم يعد مضمونا إذا أبعد أو ابتعد عن انتخابات صيدا ولائحتها.
٭ المتاعب والضغوط المالية التي واجهها الحريري في السنوات الماضية ولاتزال قائمة. والنتيجة أن العصب الأساسي المحرك للحملات الانتخابية، أي المال، مصاب بعطب وخلل ويحتاج الى معالجة.
٭ حالة تململ وعدم ارتياح، تحديدا في أوساط الطائفة السنية، نخبا وشارعا، ازاء سياسة الرئيس سعد الحريري التي لم تقف عند حد التنازل الرئاسي، وإنما استمرت في سياسة تنازلات لحزب الله آخرها في قانون النسبية، وفي أداء ضعيف مع الرئيس ميشال عون لجهة القبول باستحداث أعراف وسوابق تعزز دور وصلاحيات رئاسة الجمهورية التي يجري تكريسها عمليا على حساب صلاحيات رئيس الحكومة التي كرسها دستور الطائف.
٭ الاهتزازات السياسية في علاقات الحريري وتحالفاته، وأصابت بأشكال متفاوتة الحدة والحكم قوى أساسية: بري وجنبلاط وجعجع والجميل، وهو ما يترك أثره على مسار التحالفات الانتخابية ومصيرها.
بالإجمال يتصف التقويم السياسي لوضع الحريري وما سيكون عليه في المستقبل القريب وفي مرحلة ما بعد الانتخابات بشيء من التحفظ وهبوط في درجة التصنيف السياسي «الانتمائي».
وفي نطاق هذه التقديرات:
1- لن يكون في إمكان الحريري الاحتفاظ بكتلته النيابية الحالية الكبيرة (34 نائبا) وسيكون عليه تقبل واقع الخسارة وأن يكون هدفه ليس تحقيق أفضل ربح ممكن وإنما الخروج بأقل خسارة ممكنة وعدم النزول تحت عتبة الـ 20 نائبا.
2 - الحريري يواجه إحراجا شديدا في تموضعه السياسي. فهو يعطي في حساباته ومصالحه أولوية لحزب الله والرئيس عون مقدما إياهما على بري وجنبلاط.
ولكن هذا الواقع اللبناني يصطدم بواقع إقليمي مضاد ناتج عن تفاقم الصراع.
3 - الحريري يمكنه أن يحتفظ بالمركز الأول في التراتبية السياسية على «اللائحة السنية»، ولكن يصعب عليه أن يستعيد موقع الزعامة المطلقة التي لا تواجه منافسة وتهديدا. والطائفة السنية في طريقها الى مغادرة مرحلة «أحادية الزعامة» الى مرحلة «ثنائية الزعامة»، أو ربما أكثر الى مرحلة تعددية القوى والقيادات والمرجعيات. سعد الحريري لم يعد «الزعيم الأوحد» وبقي عليه أن يثبت أنه مازال «الأول».
إقرأ أيضاً