بيروت: حزب القوات اللبنانية يقف في أفضل وضع سياسي له منذ العام ٢٠٠٥، ويصنف واحدا من أفضل الأحزاب أداء سياسيا في السنوات الأخيرة، وواحدا من أحزاب قليلة أحرزت تقدما، في حين كانت الأحزاب في أكثريتها تراوح مكانها أو تسجل تراجعا... القوات اللبنانية كسرت حاجز التهميش وتكرست رقما صعبا في المعادلة في ثلاثة استحقاقات متلاحقة: رئاسة الجمهوريةـ الحكومة ـ قانون الانتخاب.
«اتفاق المصالحة» بين القوات والتيار الوطني الحر، الذي تدرج من «إعلان النوايا» الى «إعلان معراب»، ومن اتفاق مبادئ عامة الى اتفاق عملي حول رئاسة الجمهورية، شكل نقطة التحول المفصلي في مسيرة القوات اللبنانية ونقلها الى مكان آخر... هذا الاتفاق أسدل الستارة على حقبة سوداء في تاريخ المسيحيين حافلة بالانقسامات والكراهية و«العنف السياسي»، وأوقف مسار انحدار كان بدأ في بداية التسعينيات، وفتح أفقا جديدا في الوضع المسيحي الذي اكتسب قوة دفع معنوي وسياسي. والترجمة العملية والفورية كانت في معركة رئاسة الجمهورية التي خلصت الى وصول الرئيس القوي الذي يريده المسيحيون، بعدما كانت الانتخابات الرئاسية في مرحلة ما بعد الطائف تدور في نطاق الرئيس التوافقي الذي يريده المسلمون ويتوافقون عليه. وهذه المرة حصل في نهاية المطاف توافق شيعي ـ سني على الرئيس ولكن الرئيس الذي اختارته الأكثرية المسيحية، وكانت النتيجة وصول الرئيس «التوافقي القوي».
ليست القوات التي أوصلت الرئيس ميشال عون الى قصر بعبدا... وبتعبير آخر أدق، لا يعود الفضل لها وحدها في وصوله... فهناك دور أساسي لحزب الله الذي أظهر إصرارا على وصول مرشحه وحليفه الى أن تحقق ذلك... وهناك دور للرئيس سعد الحريري الذي أحدث النقلة الأولى النوعية في الاستحقاق الرئاسي بنقله من ضفة ١٤ آذار الى ضفة ٨ آذار.. ولكن يبقى أن التحول الحاسم في مسار الاستحقاق بدأ من لحظة تأييد سمير جعجع لميشال عون رئيسا للجمهورية، وعندما زار عون معراب كان يخطو الخطوة الأولى على طريق بعبدا بعدما حسم أمر الرئاسة مسيحيا وأحدث اتفاق عون ـ جعجع أمرا واقعا مسيحيا لا يمكن تجاوزه، وكان لا بد للحريري من أخذه في الاعتبار والتصرف على أساسه.
كان واضحا منذ البداية ولدى الجميع أن الطريق الى بعبدا تمر في حارة حريك.. ولكن لم يكن أحد يتصور ويتوقع أنها تمر أيضا في معراب. ولكن الاتفاق المسيحي فعل فعله في رئاسة الجمهورية وفي الحكومة ثانيا.. ولأول مرة يكون الفريق المسيحي هو الأكثر حضورا في الحكومة ويكون له فيها «الثلث المعطل» وأكثر (١٣ وزيرا) وتكون له أفضل الحقائب السيادية والخدماتية... ولأول مرة تكون لـ«القوات» كتلة وزارية وازنة من ٤ وزراء (وزراء القوات + الوزير فرعون) بعدما كانت القوات منذ العام ٢٠٠٥ موجودة «رمزيا» داخل الحكومة أو خارج الحكومة كليا، حتى مع حكومة سلام التي هي حكومة ائتلافية جمعت فريقي ٨ و١٤ آذار.. ولم يقف الأمر عند حدود الحكومة وإنما تواصل في معركة قانون الانتخاب التي هي «أم المعارك» وتعد الأكثر صعوبة وتعقيدا. وهنا جاءت النتيجة أيضا لمصلحة المسيحيين الذين حصلوا على قانون انتخابات كانوا اتفقوا عليه في بكركي قبل ثلاث سنوات على أنه الخيار الثاني بعد خيار أول صعب التحقيق هو «القانون الأرثوذكسي». وكما حصل في معركة رئاسة الجمهورية تكرر الأمر في معركة قانون الانتخاب. وشكل دخول القوات على خط المفاوضات نقطة التحول في مسار هذه المعركة. فلم يكن هذا الدخول عرضيا وإنما كان محوريا الى درجة أنها انتزعت اعتراف الجميع بدورها وجهودها، وأن القانون الجديد سمي «قانون عدوان» وكادت أبوته تنسب الى القوات الى أكثر من غيرها..
من رئاسة الجمهورية الى قانون الانتخاب حدث خلط أوراق في علاقات القوات السياسية وفي أكثر من اتجاه:
٭ العلاقة مع تيار المستقبل شهدت اهتزازات قوية بدءا من «افتراق المصالح» الذي حصل في انتخابات الرئاسة عندما اندفع كل طرف منفردا في اتجاه خيار رئاسي، وكان الحريري السباق والمبادر الى فك ارتباطه السياسي مع جعجع الذي رد عليه التحية بالمثل ورد على ترشيح فرنجية بتأييد عون. وهذا الاشتباك الرئاسي، وإن كان انتهى الى التقاء على عون، ظهرت آثاره ومفاعيله في مرحلة ما بعد الرئاسة حكوميا وسياسيا. فالقوات شعرت بأنها لم تعد الحليف المسيحي الأول بالنسبة للمستقبل الذي بات يرى مصلحته مع الحليف الجديد التيار الوطني الحر، والقوات وجدت
أنها على طاولة مجلس الوزراء لا تلقى دعم الحريري وتبنيه لمطالبها، وأنها في أغلب الأحيان تجد أن تطويقا يجري لطروحاتها ومقترحاتها من جانب الحريري وباسيل.
٭ العلاقة مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط شهدت تطورا إيجابيا بلغ ذروته عند احتدام معركة قانون الانتخاب ومبادرة القوات الى تسليف جنبلاط موقفا لم يكن يتوقعه بأن قررت عدم السير في أي قانون لا يرضي جنبلاط وتكريس وضعه الخاص في أن تكون الشوف وعاليه دائرة واحدة، وعبر ذلك تكريس المصالحة في الجبل والتوازن الدرزي المسيحي.
٭ العلاقة مع الرئيس نبيه بري سجلت اختراقا نوعيا إبان معركة قانون الانتخاب، عندما التقت مصلحة الطرفين على الدفع باتجاه قانون النسبية والـ١٥ دائرة. فالرئيس بري كان وصل في المفاوضات مع الوزير باسيل الى «حائط مسدود» وكان يشتكي من صعوبة التفاوض معه فيما ارتاح الى سلاسة عدوان وقدرته على تدوير الزوايا... والقوات كانت تخشى من جنوح الوضع في أحد اتجاهين كلاهما سيئ: الفراغ أو العودة الى قانون الستين.
٭ العلاقة مع حزب الله لم تشهد تقدما وتغييرا عمليا، ولكنها عرفت ترطيب أجواء وانكسار العدائية والحاجز النفسي... لم تسجل لقاءات سياسية مباشرة ولم يفتح حوار ثنائي كالذي فتح بين المستقبل وحزب الله. ولكن ثمة تواصل واقعي تحت سقف مجلس النواب حصل في إطار لجنة قانون الانتخاب، والأهم التواصل والتفاعل الإيجابي داخل الحكومة وعلى طاولة مجلس الوزراء... فإذا وضعنا جانبا الملفات السياسية والإقليمية التي يدور بشأنها تعارض وخلاف، فإن التقاء يحصل على كل الملفات الأخرى الاقتصادية والمالية والاجتماعية والإنمائية وقضايا محاربة الفساد وتحقيق الإصلاح وتفعيل المؤسسات الرقابية. والمفارقة أن حزب الله يقدر ويثمن الأداء الحكومي لوزراء القوات ويعتبرهم الأكثر جدية ومنهجية في متابعة ملفاتهم والإلمام بها... وأن وزراء القوات يلقون من وزراء حزب الله الدعم والمساندة أكثر من أي مصدر آخر، ويفتقدون الى ذلك من جهة الحلفاء.
٭ أما علاقة القوات اللبنانية مع التيار الوطني الحر، فإنها لم تسجل تراجعا الى الوراء ولكنها لم تسجل أيضا تقدما الى الأمام. ولكن عدم التقدم هو في حد ذاته مؤشر غير مريح ومثير للقلق والتساؤل عن الأسباب التي أدت الى دخول العلاقة في حال المراوحة والتشكيك... هناك من يعتبر في أوساط الطرفين أن اتفاق المصالحة حقق أهدافه الأساسية في الرئاسة والحكومة وقانون الانتخاب... وتحت هذا السقف السياسي الاستراتيجي من الطبيعي أن تحدث تجاذبات سلطوية وخلافات تكتية، بما في ذلك عدم حصول تحالف في الانتخابات المقبلة، خصوصا في ظل قانون النسبية الذي يغير قواعد اللعبة ويخلط أوراق اللوائح والتحالفات الى درجة يمكن أن تحصل تفاهمات جانبية بين القوات و«المردة» أو بين التيار والكتائب... وهناك من يعتبر أن اتفاق معراب الذي كان مقدرا له أن يصطدم بمعوقات سياسية نتيجة الخلاف الحاصل بين «مشروعين» وفي التوجهات والتحالفات، اصطدم أيضا باعتبارات الصراع على السلطة، وحيث لم تنل القوات ما كانت تنتظره في الحكم والدولة بما يتناسب مع حجمها الشعبي والسياسي، ومع موقعها كشريك للتيار في العهد الجديد. وهذا الواقع الذي انكشف في الأشهر الماضية على صعيد الإدارة يستمر في الأشهر المقبلة في عملية التحضير للانتخابات واقتسام الحصص وتحديد الأحجام وتشكيل اللوائح.
تتجه القوات اللبنانية الى «تحالفات مفتوحة متحركة» في انتخابات العام ٢٠١٨ التي تعتبرها مفصلية ومقررة لحجمها الشعبي ومستقبلها السياسي. فلكل دائرة وضعيتها وخصوصيتها وتحالفاتها، وأن المعيار الأساسي الذي يؤخذ بالاعتبار هو «التحالف الذي يعطي قيمة مضافة من الفوز أو يساهم فيه» لا التحالف الذي يكون عبئا ويأخذ من دون أن يعطي... وإذا كانت القوات حسمت وضمنت التحالف مع الحزب الاشتراكي وتعول على تحالفاتها مع تيار المستقبل في أكثر من منطقة، وتنتظر من الرئيس نبيه بري التفاتات وتمريرات خاصة وتدرس موضوع تحالفها مع اللواء أشرف ريفي وما إذا كان يفيدها أو يضرها... فإن المسألة الأكثر دقة وصعوبة هي مسألة التحالف الانتخابي مع التيار الوطني الحر، ومن ضمن أي شروط ومواصفات. وتكمن الدقة والصعوبة هنا في أن لا تؤدي المنافسة والخلافات وافتراق المصالح في الانتخابات الى أمرين تتفادى القوات الوصول إليهما:
- الأول هو خروج الثنائي المسيحي بخسارة أو بفوز باهت وغير مريح، ما يؤدي الى عدم الحصول على كتلة نيابية كبيرة تلامس عتبة الثلث المعطل في مجلس النواب وتعتبر عاملا أساسيا مقررا في أي معادلة حكومية ورئاسية مقبلة.
- الثاني هو تطور التصادم الانتخابي الى اشتباك سياسي، وتطور عملية فك الارتباط الانتخابي الى انفكاك عرى التحالف السياسي، ما سيؤدي الى عودة العلاقة الى ما قبل اتفاق معراب، وعودة الوضع المسيحي الى الوراء في مرحلة وظروف لا يحتمل الوضع المسيحي مثل هذه العودة.
إقرأ أيضاً