من هو الآخر الذي يتعين عليّ قبوله؟.. إنه الشخص الذي هو غيري، سواء كان من رحمي أو ذلك الذي لا يمت لي بأي صلة قرابة، وحديثنا عن الآخر يشمل النوعين منه. وقد يستغرب البعض كيف يكون ابنه آخر وهو يراه جزءا منه؟ ومثل هذه النظرة للأبناء توقع بعض الآباء والأمهات في أخطاء تربوية جسيمة حينما يوجهونهم للحياة على أنهم نسخ مكررة لأنفسهم، بينما واقع الحال وإن اجتهدوا في تربيتهم على نمطية محددة إلا أن هؤلاء الأولاد يرثون من الأجداد القريبين والبعيدين قابليات واستعدادات قد تكون مختلفة إلى حد بعيد عما لدى والديهم، والاعتراف بالاختلافات بيننا وبين أبنائنا هو أول الطريق لتفهم قدراتهم ومواهبهم لتوجيهها تربويا الوجهة الصحيحة. كذلك أول آلية للتعايش الإيجابي مع الآخر من الأفراد والجماعات هو قبولهم كما هم في واقعهم لا كما تشتهيه وتشاؤه أنفسنا، وبتدبر هذه الخطوة المهمة نستكشف أن من أهم الأسباب التي تحول سلوكنا تجاه الآخر إلى خلاف معه هو رفضنا اختلافه عنا.
والسبب الذي يأتي بعد هذا في الأهمية هو الصراع على مواهب الحياة بين الأفراد والفئات والدول، ولقد كان هذا التنازع دافعا لأول جريمة على وجه الأرض بقتل قابيل أخاه هابيل. لقد شاء الله سبحانه بحكمته أن يوزع رزقه ونعمه على عباده بكيفيات متنوعة وكميات متفاوتة، ونظم سلوكياتهم في مسؤولية إدارة الحياة وتوظيف هذه النعم كل من موقعه وفق ناموس العدالة الإلهية التي بلغهم إياها عبر رسله وأنبيائه ابتداء بأبي البشرية آدم عليه السلام، وانتهاء بالخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ـ الحديد: 25).
فإذا آمنا بالتوزيع الإلهي في تفاوت عطاياه ومننه المحفزة للتكامل البشري الفردي والاجتماعي، ووظفناها وفق المنهجية الربانية في عمران أنفسنا ومجتمعاتنا بعيدا عن الحالات النفسية السلبية كالحسد والطمع والأنانية والطغيان والتسلط، والتزمنا بأخلاقيات حب النوع الإنساني واحترامه وتجنب ظلمه، فإننا بذلك نكون قد ملكنا الجذور النفسية والمنابع الفعلية للسلوك العملي في قبول الآخر واحترامه، وتجنب نفيه وظلمه. أما المحورية الثالثة التي قد تسبب إقصاء الآخر ورفضه هي محورية الحق والباطل حينما يتصور أحدنا أنه يملك الحقيقة المطلقة فيما يعتقد ويفكر وما عدا ذلك فهو الضلال المحض الذي ينبغي أن يقصى ويباد من الوجود. هذه الإشكالية ينبغي أن نواجهها بالواقع الفعلي الذي لا يملك أحدنا فيه الادعاء بالعصمة من الأخطاء في الفهم والتصورات والتطبيقات لأي حقيقة من الحقائق التي نشترك في الإيمان بها، وبدلا من التعارض في الآراء على مستوى التنافر والإلغاء للآخر لنسع للتعامل مع المخالف على قاعدة أن رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأيه خطأ يحتمل الصواب، أما كيف نوظف ما تصورناه من أهم الآليات لمكافحة آفة إلغاء الآخر والعمل على تأصيل قبوله فهو يحتاج إلى مقال آخر، وللحديث بقية.
[email protected]