يعتبر وجود وثيقة الدستور في المجتمعات هو الحد الفاصل الذي نقل المجتمع من طور اللادولة الى الدولة المدنية المتحضرة.
الدستور تلك الوثيقة التي تعد العقد الاجتماعي الذي يضبط علاقة السلطة الحاكمة بعموم أفراد الشعب المحكوم، وكذلك يحدد اختصاصات وصلاحيات السلطات الثلاث في الدولة والعلاقة بينها وهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية.
ويأتي على رأس أهمية وجود هذه الوثيقة السياسية تحديد شكل النظام السياسي للدولة والتي توافق عليها جميع رعايا تلك الدولة، فيحدد الدستور نظام الحكم هل هو ملكي أم جمهوري؟
ويحدد كذلك شكل الحكومة هل هي حكومة رئاسية كما في الولايات المتحدة؟ أم هي برلمانية كما في بريطانيا وإيطاليا مثلا؟
الطريف في بلاد العرب أننا لم نعد نفرق بين الملكيات والجمهوريات، لقد تداخلت أنظمة الحكم ببعضها البعض لحد بعيد يثير الضحك أحيانا، وللعلم فإن الملكية المطلقة انتهت تماما من كل دول العالم، ويعتبر هذا الشكل من الحكم عودة للقرون الوسطى اذا لم يكن أبعد.
الدستور كما هو متعارف عليه أنه أبو القوانين، فهو الأساس لكل القوانين بالفعل، فلا يجوز لأي قانون أن يتصادم أو يتعارض مع نص دستوري وإلا كان باطلا تلقائيا بعد الطعن عليه بعدم الدستورية.
وأبرز صور الأنظمة المدنية اليوم هو التوازن الدستوري الذي يقضي بعدم تعدي أي سلطة أو جهة على أخرى، فالرئيس أو رئيس الوزراء ووزراؤه يعملون تحت سمع وبصر البرلمان فهو يراقبهم ويحاسبهم وقد يسحب الثقة من الحكومة ويسقطها، وفي نفس الوقت الشعب يرقب أداء البرلمان من بعيد فيعيد انتخاب الكفء ويقصي غير الكفء من خلال انتخابات حرة ونزيهة فعلا، وبهذا تكون الرقابة الشعبية هي الحاكم الفعلي على الجميع.
وفي حال الاختلاف بين الحكومة والبرلمان يرجع الأمر فيه إلى السلطة القضائية التي تعتبر نقطة الارتكاز في التوازن الدستوري، فيفصل في النزاعات ويحدد الصلاحيات المتنازع عليها.
لذلك فإن تسييس القضاء أو عدم حياديته وانحيازه لأي طرف مهما كان المبرر يحدث خللا كبيرا في الدولة.
وإذا ما استفحل هذا الداء فانه يؤدي الى فقدان الثقة والتوازن المنشود بين سلطات الدولة لتبدأ أجواء عدم الثقة في الشيوع مما يؤدي إلى تصارع السلطات بدلا من تكاملها.
ان بناء الدولة على قواعد دستورية متينة أمر في غاية الأهمية، واحترام الدستور وتعزيز ثقة عموم أفراد الشعب به مسألة مفصلية في حياة الدولة وتقدمها. ففي بريطانيا مثلا هناك دستور عرفي غير مكتوب، يحترمه الجميع وتعارف عليه الجميع لدرجة أنهم ليسوا بحاجة لكتابته.
في عالمنا العربي وفي بعض الأحيان بل في كثيرها يتم القفز على الدستور ورميه خلف الظهور عند تصادمه مع رغبة صاحب السلطة، ليكون كمن صنع إلها من الشوكولاتة، ما يلبث أن يأكله إذا جاع، بل ويستمتع بطعمه.
فليس المهم أن تكتب الدولة دستورا ـ قد لا يساوي المداد الذي كتب به ـ في بلادنا العربية تخوض الشعوب مع السلطات الحاكمة معركة الدساتير وكأنها تلعب معها لعبة شد الحبل.
لكن الأصح والأسلم بكل تأكيد التوافق الحقيقي على دستور جامع لا ينفي أحدا ولا يقصي أحدا ولا يلغي أحدا ولا يعزز جانب أحد على أحد، وهو ما شعرناه في حفل توقيع دستور تونس حيث رأينا الفرحة والسرور يعمان جميع مكونات الشعب التونسي بلا استثناء.. فالأوطان ملك للجميع.
[email protected]