عقب فتح الشام سنة 18 هجرية همس عمرو بن العاص في آذن الخليفة عمر بن الخطاب «ائذن لي في المسير الى مصر، انك ان فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم»، لكن عمر رضي الله عنه تردد في الأمر خوفا على المسلمين ان يصيبهم الارهاق من كثرة الحروب المتواصلة وقد فرغوا قريبا من فتوحات الشام، وخشية من التوسع في الفتح من دون ان ترسخ اقدام المسلمين وينشروا دينهم في البلاد المفتوحة، لكن عمرو هون الامر على الخليفة فقال له عمر حينئذ «اني مرسل اليك كتابا وأمرتك فيه بالانصراف عن مصر، فان ادركك قبل ان تدخلها او شيئا من أرضها فانصرف وان دخلتها قبل ان يأتيك كتابي فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره».
داهية العرب
وسار عمرو الى مصر، وفي رفح وصله كتاب أمير المؤمنين فلم يتسلمه «داهية العرب» حتى شارف العريش فإذا عمر يأمره فيه بالانصراف ان لم يكن قد دخل ارض مصر، ولكن عمرو الآن في أرض مصر، فأمر الجيش بالمسير على بركة الله.
اخترق الجيش سيناء سنة 18هـ، ففتح العريش من غير مقاومة تذكر ثم غادرها الى مدينة الفرما ذات الحصون القوية فحاصرها المسلمون اكثر من شهر، وتم الفتح في اول شهر المحرم 19 للهجرة، وسار عمرو بعد ذلك حتى وصل بلبيس فوجدها محصنة وخلال شهر من الحصار والاشتباكات فتحت المدينة، وكانت بها ابنة المقوقس «ارمانوسة» فارسلها عمرو الى ابيها معززة مكرمة.
وطلب عمرو المدد من أمير المؤمنين، فأرسل اربعة آلاف مجاهد، وعلى رأسهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وكتب اليه «اني قد امددتك بأربعة آلاف، على كل ألف منهم رجل مقام الألف».
وقبل وصول المدد تقدم تيودور قائد الروم في عشرين ألفا ليضرب المسلمين ضربة قاصمة ولكن ابن العاص تنبه للامر فوضع كمينا ثلاثي الاضلاع بتوزيع قواته في ثلاثة اماكن، فاصبح تيودور وجيشه بين جيوش المسلمين من ثلاث جهات، فحلت به الهزيمة وفر قسم كبير منهم الى حصن بابليون فقويت الحامية في هذا الحصن، لم يبق امام عمرو الا حصن بابليون فإن فتح فتحت مصر كلها.
وفي مطلع شهر رمضان المبارك سنة 19 هجرية بدأت اهم خطوة في مشوار انضواء مصر تحت راية الاسلام، بحصار حصن بابليون حصارا محكما وبداخله قادة الروم والمقوقس رجلهم في مصر، ولكن الحصار طال وتأخر الفتح، وما ذاك الا بسبب قلة عدد المسلمين «8004 رجال» ومتانة أسوار حصن بابليون وتجمع الآلاف من جند الروم في داخله، وقلة معدات الحصار مع الجند المسلمين مع فيضان النيل.
ارتباك أهل الحصن
وتشاور عمرو مع أصحابه فقال الزبير بن العوام: اني اهب نفسي لله تعالى، وارجو ان يفتح الله بذلك للمسلمين، فوضع سلما الى جانب الحصن ثم صعد وامرهم اذا سمعوا تكبيرة يجيبونه جميعا، فما شعروا الا والزبير على رأس الحصن يكبر، ومعه السيف، وقد عصب رأسه بعمامة صفراء علامة حب الموت او النصر، وقفز الزبير داخل الحصن، ومن داخل الحصن كبر تكبيرة واجابه المسلمون بالتكبير بصوت واحد، فارتبك اهل الحصن وظنوا ان المسلمين قد دخلوا واستطاع الزبير ان يفتح الباب واقتحم المسلمون الحصن، وامتلكوا بذلك مفتاح مصر، ولما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه اليه فاجابه عمرو الى ذلك ضاربا المثل في العفو عند المقدرة والصفح الجميل.
اذا كان ظلم الروم لشعب مصر كفيلا بعزل الشعب عن مواجهة المسلمين فلم يتصدوا لهم وبقي على الفاتحين ان يكملوا الطريق الى قلوب وعقول الناس بالتزامهم شرع الله واحسانهم الى شعب مصر واحترامهم لعقيدته وحفاظهم على الانفس والاموال والتقاليد الاجتماعية، فدخل المصريون في دين الله بقلب مفتوح وارادة طيعة ومنذ تلك اللحظة المباركة صارت مصر درة تاج الاسلام وحصنه الامنع المتين والصخرة الصلدة التي تحطمت عليها جميع مكائد اعداء الاسلام، بل ان جيش مصر هو الذي حمى اهل الاسلام من الزوال في لحظات حرجة من تاريخه ويكفي ان نذكر حطين وعين جالوت والانتصار المبين على الصليبين والمغول، كما تكفلت ميزانية مصر وحدها بنشر الاسلام في افريقيا واوروبا «الاندلس» وبالدفاع عنه في اسيا، وهكذا ستظل دائما حصن الاسلام الاول، ابد الدهر، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «اذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فانهم خير اجناد الأرض، لأنهم هم وأزواجهم في رباط الى يوم القيامة».