إعداد: محمد ناصر
«الى عصافير.. نسيت أن لديها أجنحة، رغم ان الأقفاص مشرعة الأبواب».. إهداء أرادت الكاتبة والإعلامية ريم الميع ان تبدأ كتابها «كويتية في غوانتانامو» الصادر عن دار مدارك للنشر، به لتربط بين قيمة الحرية ببعدها المادي والمفقودة عند السجين القابع خلف الأسوار وبين الحرية ببعدها المعنوي عند الطلقاء المسجونين داخل أسوار نفسية لم يحطموها.
العربية والكويتية الأولى
وتعتبر الميع أول صحافية عربية وأول كويتية دخلت معتقل غوانتانامو في كوبا في ابريل عام 2002 وذلك ضمن إطار مغامرة صحافية أقدمت عليها ونشرتها في جريدة «الرأي العام» بتفاصيلها ودقائقها ضمن 10 حلقات أجرت خلالها لقاءات وتحقيقات عن طريقة حياة السجناء وسجانيهم وتفاصيل يومياتهم المكبلة بالشروط والقوانين لا الأصفاد والأغلال وحدها.
في البدء
بدأت الميع كتابها المتضمن مقالات روت فيها تجربتها في غوانتانامو بتقديم نظرة تعريفية عن السجن في العالم وفي الكويت، فاعتبرت ان من المفارقة ان يكون موقع السجن في منطقة الصليبخات حيث موقع المقبرة ليعزز مقولة «الداخل مفقود والخارج مولود».
وباختصار مليء بالسخرية والألم وبإسقاطات سياسية ذكرت سبب ندرة ذكر السجن في التاريخ العربي بسبب رغبة الملوك والسلاطين في العهود السحيقة بالقول: «يا غلام اقطع رأسه» وإما «يا غلام أعطه مائة درهم».
أقوال مأثورة
كما حرصت الميع على بدء كل مقال من مقالاتها بقول مأثور ومشهور لكبار الشخصيات العالمية والعربية والمحلية أو ببيت شعر أو آية قرآنية للتمهيد لمقالها فاختارت أسماء بارزة كغازي القصيبي، ابن سينا، بدر بن عبدالمحسن، فهد العسكر، محمود درويش، باولو كويلو، محمد الرطيان، سعاد الصباح، احمد مطر، مظفر النواب، أمل دنقل، محمد الماغوط، أبوفراس الحمداني، المتنبي، ويليام شكسبير.. وغيرهم الكثير.
سجن النساء
وعرضت الميع وقائع رحلتها بمقالات متتابعة ترصد مغامرتها فكان مقال «حديث ذو شجون» الذي روت فيه بداية تشكل فكرة خوض غمار عالم السجون الذي بدأ من سجن النساء في الكويت، فقالت: في بداياتي الصحافية لاحت لي فكرة اقتحام ذلك العالم الآخر، المجهول، المسمى «السجن» كان يملؤني التساؤل: هل ثمة ما يشبه «اسماعيل ياسين في السجن» أو «30 يوم في السجن» أو «حب في الزنزانة»؟
ولأن الجواب المسبق لديّ باليقين الرافض لوجود أي مشابهة تجمع أرض الواقع بالدراما السينمائية، تراجيدية كانت أو كوميدية، وددت أن ألقي نظرة ولو عن بعد.
بشيء من الخوف طرحت الفكرة مطلع الألفية الحالية، مايو 2000، الخوف من مجرد الفكرة، فكرة المحاولة، محاولة الدخول إلى هذا العالم، عالم الضد، المغاير والمظلم، المخيف والخطر، العالم الذي لا نعرف.
كان الخوف يحيط بي من جميع الاتجاهات، ويجتذبني في اتجاهين، بين دافع ومعوق، وكثير من الاحيان يتغلب المعوق على الدافع في داخلي، إلا أن الدافع ينتصر أغلب الأحيان.
تتابع الميع: صوت أمي تقول باستنكار: «اشتبين (ماذا تريدين) بالسجن» يرد عليه صدى صوت جاسم بودي رئيس تحرير (الناشر حاليا) جريدة «الراي» ـ حيث أمضيت معظم عمري الصحافي: «السجن ما يخوف». وبين الصوتين يتغامز بعض الزملاء حولي بأن «ثمة من يريد التخلص مني بارسالي للسجن».
وواقع الحال أن السجن يخوف ويخوف ويخوف، حتى وإن كان الاقتراب أشبه بالاختراق الذي هو أقرب للاقتحام المسلح، وإن كانت الاسلحة لا تتعدى القلم وجهاز التسجيل وبعض الاوراق التي تخضع هي الأخرى مثلك للفحص والتدقيق، لا شيء يشي بالراحة في السجن، للسجين والسجان ومن يقترب منهما، هناك ما يثقل على كاهل الجميع، منظر السجن، ورجال الأمن الذين ينظرون إليك بطريقة خاصة تحمل معها التساؤل الذي يشوبه الشك والإدانة، وإن كنت قريبا من المتهم فسيطولك شيء من الاتهام وإن كنت مستطلعا فسيطولك تساؤل ما الذي يدفعك إلى ذلك لولا شبهة في نفسك وتبعة؟
بعد عودتي من سجن النساء مساء 28 مايو2000، حيث شكل ذهابي إليه، في حد ذاته، خطوة غير مألوفة بالنسبة إلينا أنا وأمي التي كانت تقول: «اشتبين بالسجن؟» ثم باتت ليلتها فرحة بما حملته معي تذكارا لزيارتي من «مشغولات» السجينات، ورغم رداءة تصميمها، وضعتها في مكان بارز لتحكي لرفيقات «شاي الضحى» رحلة ابنتها إلى سجن النساء عندما أدركت ـ مما كتبت ـ أن خلف القضبان قبس حياة لا تدرك ولا تحجز.
أما أنا فبت ليلتي على دوي قرع طبول أفريقية في رأسي تقتحم عزف موسيقى جاز في قلبي.
ردود الفعل
وأظهرت الميع في مقالها «ورد وحجارة» ردات الفعل المتباينة بين مرحب وشاجب لرحلتها إلى غوانتانامو قائلة: بعد العودة من غوانتانامو، تباينت ردود الفعل، بين من فرش لي الورد، ومن رماني بالحجارة، وربما كنت أحتاج إلى رد هذا الفعل وذاك لأشعر بالحياة، فالحياة ورد وحجارة، وهما يشكلان صخبها، أما الهدوء، فسمة الموتى في قبورهم.
وردتان بارزتان زينتا طريق العودة، الأولى: بيان إشادة من جمعية الصحافيين الكويتية، أعرب خلاله أمين سرها فيصل القناعي عن تقديره «لهذا العمل الصحافي المتميز الذي يسجل سابقة صحافية كويتية تدعو للفخر» ناقلا «إعجابها الشديد» بسفري إلى معسكر غوانتانامو في كوبا وإعداد 10 حلقات عن أحوال المعتقلين من أعضاء تنظيم القاعدة هناك، ومعتبرا «هذا العمل الصحافي المتميز هو شهادة لتفوق الصحافة الكويتية وللفتاة الكويتية التي اثبتت وجودها في جميع المحافل».
والثانية: تقرير اصدرته وكالة الانباء الكويتية تحت عنوان «صحافية كويتية تنجح في زيارة قاعدة غوانتانامو الاميركية» كتب الزميل مشعل الحبيل، فيه: في مهمة صحافية لم تخل من الصعوبات نجحت صحافية كويتية في زيارة معتقل غوانتانامو الاميركي الشهير. الذي نال اهتماما اعلاميا كبيرا لما يحويه من معتقلين تتهمهم الولايات المتحدة بأنهم أعضاء في تنظيم القاعدة وحركة طالبات. ورغم السرية والاحتياطات الأمنية المشددة في تلك الجزيرة الكوبية، استطاعت صحافية تعمل لدى صحيفة «الراي» الكويتية إقناع القائمين على المعتقل بترتيب زيارة لتلك الجزيرة لتصبح أول صحافية تمثل صحيفة تصدر في الدول العربية تزور المعتقل.
أما حجرا العثرة، فالأول: تعثري بعتبة المطبخ، مكاني المفضل للكتابة في البيت، كانت سقطة بسيطة جدا لكنها كانت مؤلمة جدا في الوقت نفسه، وعندما ذهبت إلى المستشفى، خضعت للأشعة السينية (إكس ري حقيقي، لا اسم المعتقل هذه المرة) فتم اكتشاف كسر في قدمي ووضعها في الجبس فترة تجاوزت الشهرين، تبعها علاج طبيعي لفترة تجاوزت ثلاث أسابيع.
الورد حفزني، والحجارة كذلك، وبين ردود الفعل المتباينة، لا استطيع أن أخفي مشاعر الخذلان التي انتابتني حين صمت بعض المعنيين بقضايا المرأة عن امر ذهابي، كامرأة، وكأنه أمر لا يعني المرأة!
محمد الصباح: الميع أثبتت للعالم أن الحقوق مرتبطة بالإرادات وليست منة من أحد
قدم للكتاب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية السابق الشيخ د.محمد صباح السالم الصباح:
ريم الميع فتاة كويتية وابنة قبيلة عريقة، عرفتها ناشطة نسائية فاعلة من أجل إعطاء المرأة الكويتية حقوقها السياسية كاملة، وإعلامية نشيطة تغطي أخبار وزارة الخارجية الكويتية، وتتعامل باحترافية مع ملف العلاقات الدولية، شاهدتها تجمع تواقيع من الكويتيين والكويتيات وتقدمها مع زميلاتها الى القيادة السياسية في إطار تحرك حضاري هادف الى تطوير النظام السياسي الكويتي من خلال مشاركة أكبر للمرأة، وشاهدت تواقيعها على عشرات المقابلات الصحافية مع زعماء ومسؤولين عرب ودوليين.
رأيتها في كل المؤتمرات الصحافية التي كنا نجريها مع ضيوف الكويت وغالبا ما كنت أعطيها ملاحظات على أسلوبها «المشاغب» في احتلال أدوار زملائها وزميلاتها وأسئلتها التي لا تتوقف، كما رأيتها في أروقة الأمم المتحدة على أبواب الجمعية العامة أو مجلس الأمن بالأسلوب نفسه و«الشغب» نفسه والأسئلة نفسها.
هذه الفتاة الكويتية سجلت سبقا بحد ذاته لمجرد انها طارت بمفردها الى معتقل غوانتانامو في أقاصي الكرة الأرضية. كانت أول صحافية عربية تدخل الى هذا المكان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بعد تفجيرات 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب.
انتزعت حقا إنسانيا ومهنيا دوليا فيما لم تكن المرأة الكويتية حصلت بعد على حقوقها السياسية في الترشيح والانتخاب، أظهرت للعالم ان الحقوق مرتبطة بالإرادات وليست منة من أحد، وان تفاصيل صغيرة يمكن ان تصحح المسار وتعطي الصورة جمالها الحقيقي والطبيعي، خاضت «تاء التأنيث» تحديات الزمان والمكان متفوقة على ذكور كثر وجدوا في الطيران والإبحار الى ذلك المكان المخيف «مغامرة غير مستحبة».
لقد تجاوز الكتاب التجربة الشخصية لكاتبته، الى الغنى المعلوماتي عن مكان يبقى في رأيي أكبر من معتقل، تحدثت في التاريخ والجغرافيا، رصدت بعين مختلفة ما رأته وعايشته، كانت عينها هي الكاميرا الحقيقية لا الكاميرا البدائية التي كانت تحملها وورطتها في مواقف محرجة، وكانت ذاكرتها هي الذاكرة الرقمية للأجهزة الالكترونية الحديثة التي لم تكن تحملها معها آنذاك، وكان قلمها هو المسجلة التي لم يسمح لها بأن تقترب من الزنازين وسكانها. رصدت الكاتبة أمورا تتعلق بصلب التشابكات المرتبطة بصراع الحريات في تلك المرحلة أو ما يصطلح على تسميته «صراع الجهالات» فنجحت ريم الميع في ملء فراغات كثيرة من شبكة الكلمات المتقاطعة هذه، معتمدة اسلوبا لغويا «خفيف الدم» لمعالجة موضوع «ثقيل الهم» غطت موضوعا دوليا بامتياز وكشفت تجربة شخصية باقتدار.
صراع الجهالات مستمر وعودة الوعي مسؤولية الجميع، خصوصا أولئك الذين دفعهم منظر المحتجزين البرتقاليين إلى حجز أفكارهم الساطعة في زنازين التقاعد المظلمة.
.. والعود تويتر
اختارت الميع ان تختم كتابها بمقال روت فيه انقطاعها عن الكتابة، ثم ظروف عودتها بمقال «والعود تويتر» الآتي نصه:
حاولت ان اكون مواطنة صالحة، لا أرى، لا أسمع، لا أكتب.
توقفت عن الكتابة، بكامل إرادتي منذ 2008 أو لنقل فقدت شهية الكتابة، فما جدوى الكتابة لمن لا يقرأ، وان قرأ لا يفهم؟! ربما كانت تلك هي المرحلة الأسوأ من حياتي، لأنني اعتدت ان أكتب كما أتنفس، وتوقفي عن الكتابة كان بمنزلة توقفي عن التنفس في وجود من يحتكر الهواء.
أعترف هنا، بانني أخطأت في بعض البدايات كما في بعض النهايات، ورطت وتورطت كثيرا، هاجمت وهوجمت أحيانا، فرحت وندمت، اختلطت علي الأوراق، بين محكمة القراء ومحكمة القضاء!
لكن أقسى ما فعلت ان صنعت قفصا لنفسي بنفسي، وحين فتح باب القفص، بقيت في القفص، لم أحلق، لأنني نسيت أو لنقل انني تناسيت ان لي أجنحة، كنت دوما أردد: حتى الناس نسوني.
ثم جاء اليوم الذي قررت فيه الشاعرة سعدية مفرح ان تضعني في مواجهة حرة، على الهواء مباشرة، مع نفسي ومع الناس، بتغريدة صغيرة كتبتها على تويتر تقول: «ريم الميع، كانت أجمل وردة في شارع الصحافة الكويتية، وأفضل قلم ظهر في جيلها، واختفت فجأة، وآخر مطبوعة كتبت فيها جريدة الراي.. هل تذكرونها يا قراء؟».
التغريدة قرأتها مذعورة، ظهيرة يوم كنت أحتسي فيه القهوة مع استاذتي ومعلمتي فاطمة حسين لتوديعها قبل سفري في اجازة الى نيويورك، عندما تلقيت اتصالا من بعض الصديقات يبلغنني فيه ما كتب عني في «تويتر» الذي لم أكن أهتم بمتابعته كثيرا حتى ذلك الوقت!
ومساء، اتصلت لأعبر عن امتناني فطلبت ان أسمح لها بنشر حسابي في تويتر وهكذا كتبت: وأخير..ا! وجدنا نجمة شارع الصحافة الكويتي اللامعة (المختفية) ريم الميع، ها هي تغرد.. تابعوها هنا..!
وهكذا انتقل حسابي في موقع التواصل الاجتماعي من الخاص في محيط الأقرباء والأصدقاء الضيق والمحدود الى العالم في محيط القراء والمتابعين.
كان «تويتر» مرافقي في السفر وكانت الأسئلة تتزايد فيه يوميا عن سر اختفائي خصوصا انني عرّفت نفسي في «البايو» بأنني صحافية مع وقف التنفيذ، تمارس ـ حاليا ـ «الشخبطة» الكتابية عبر تويتر مؤقتا، لكن القدر كتب على الصحافة «مع الشغل والنفاذ» فثمة من طالب بالكتابة عن غوانتانامو وتزايدت الطلبات من متابعي ووصلت لحد الإلحاح اليومي، ومجبرة لا بطلة، انصعت رغم عدم اقتناعي في البدء، ثم كتبت:
reemalmee@
في الطريق إلى غوانتانامو قرأنا عبارة:
المكان الأكثر رداءة ليعيش فيه الإنسان
على الأوراق
على الجدران
لم يكتبها المعتقلون بل.. الأحرار
وبعدها:
غوانتانامو لم تكن مجرد رحلة ريم الميع
كانت فكرة لعالم من المتناقضات
حين يدافع عن الحرية من لا يطبقها!
ويطالب بها.. من لا يطبقها ايضا!
وفوجئت بتراكم «الريتويتات» و«التفضيلات» وتزايد «المتابعين» في ساعات!
وبعد ثلاثة أشهر تغير «البايو» الى «صحافية كويتية زارت سجن غوانتانامو وتدون يومياتها فيه في كتاب سيصدر قريبا».
عندها جاءت فكرة تقديم هذا الكتاب، ولعل ما سبق يجيب عن كل أسئلة: اختفائي وظهوري وسبب تقديم الكتاب بعد نحو 11 عاما من الزيارة.
ريم الميع في سطور
ـ أول صحافية عربية دخلت معتقل غوانتانامو في كوبا في أبريل 2002.
ـ كتبت مقالا يوميا بجريدة الوطن السعودية منذ عددها الأول في أغسطس 2000.
ـ محررة سياسية في جريدة «الرأي» الكويتية منذ يونيو 1999.
ـ غطت كل دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ العام 2002 حتى العام 2006 وأجرت لقاءات مع عدد من الزعماء والمسؤولين العرب والأجانب.
ـ شاركت في تأسيس مجلة الحدث الكويتية وتحريرها في 1997.