عندما كنت في بحر السنوات العشر وأثناء رجوعي من المسجد، كان بيدي قنينة مشروبات غازية، وكان من المتعارف عليه بين «ربع الفريج» أن نرمي القنينة في بالوعة تصريف مياه الأمطار الموجودة في الشارع، وهذا ما فعلته، لكن هذه المرة صادف مرور أحد الجيران الذي كان في عمر الثلاثين تقريبا، فأخذ يمشي بجانبي، وقال وهو مبتسم: إذا رميتها بهذه الطريقة، قد تسبب انسدادا في تصريف الأمطار. قلت: هي مجرد قنينة، لن تؤثر في شيء، قال: أتعرف قصة جحا مع الملك، أجبته بالنفي، قال: كانت قرية جحا توشك على مجاعة بسبب قلة الأمطار، فنادى الملك في أهل القرية بأن يتبرع كل رجل بالغ بكأس من الحليب، وعند الأزمة نستخدم هذا الحليب لصناعة الأجبان والألبان لغاية الموسم المقبل، فقال جحا في نفسه: الكل سيتبرع بكأس الحليب، لماذا لا أضيف كأسا من الماء عوضا عن الحليب، ولن يلاحظ أحد، ففعل ما أراد، وعندما حل موسم القحط، أمر الملك بإحضار الحليب، وعندما فتح الغطاء، وجد أن كل المدينة وضعت ماء وجميعهم فعلوا مثل ما فعل جحا، فأدى ذلك إلى هلاكهم، ولم يشرح لي قصده من القصة، وذهب في حال سبيله.
أثناء طفولتي كان جميع أهل الحي يسهمون في تربية أبناء الحي، أعداد الناس من مواطنين ووافدين كانت قليلة، لا يوجد إنترنت، أفكار المجتمع لم تكن متنوعة، لعدم تعدد وسائل وصول المعلومات حينها، فالشخص يولد في نفس المجتمع غالبا يعتنق الفكر المتوافر فيه، لا يجد فرصة للاطلاع على أفكار مجتمعات أخرى إلا فيما ندر، من خلال السفر، أما الآن فتجد أخوين شقيقين لا يفصل بين غرفتيهما إلا الجدار، ويكون أحدهما معتنقا للفكر التفجيري، والآخر يتبع فكر الانحلال الأخلاقي، بسبب تتبع الأول للمواقع المتطرفة، والثاني للمواقع الانحلالية، هذا غير وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها الكبير على المجتمعات، في السابق أبناء نفس الحي غالبا يعتنقون الفكر نفسه ويمرون في طرق التربية نفسها، الآن الذين يعيشون في المنزل نفسه تجد بينهم تفارقا فكريا كبيرا. العالم تغير بسرعة مهولة، التنوع الفكري داخل المجتمع الواحد أصبح لا حدود له، كمية ضخمة من المعلومات المفيدة وغير المفيدة، الإشاعات التي كانت تحتاج إلى سنين لتنتشر، أصبحت تنتقل في دقائق، كل هذا يحتاج الى حلول مجتمعية جديدة، لكن الواضح أننا لم نطور هذه الحلول، وما زلنا نستخدم الحلول القديمة، التي كانت مناسبة جدا لمجتمعنا المغلق ولا تناسب السرعة الحادثة حاليا، وكنتيجة حتمية، انتشر الطلاق، وتفككت الأسر، وزادت التفرقة العنصرية، وتباعد الناس، وانتشرت الجرائم، الكل يبحث عمّن يطابقه فكريا أو عرقيا وينعزل معه، قد يكون التنوع الفكري سلاحا ذا حدين، إذا تم احتواؤه من المجتمع وتقبل الفكر الآخر، أصبح إيجابيا وضرورة لسهولة تعامل المجتمع مع المجتمعات الأخرى، وإن لم يحتو المجتمع هذه الأفكار، أصبح سيفا حادا يقصم ظهر المجتمع ويعيث فيه تفرقة، والتأخر في طرح الحلول واستخدامه أو عدم الاعتراف بوجود المشاكل سيؤدي إلى تفاقمها، فبداية كل حل للمشاكل الاجتماعية هو اعتراف المجتمع نفسه بوجودها، ولكن لا توجد هناك بوادر لاعتراف مجتمعنا بمشاكله، فما زال الصوت القائل أمورنا طيبة ونحن بخير هو المرتفع، والصوت الآخر يكاد لا يسمع ولا يرغب أحد في سماعه، وأصبحت الأمور الثانوية هي المسيطرة والأساسيات قليل من يتحدث عنها.