قد لا تكون المبادرة التي قامت بها جنوب أفريقيا، مشكورة، ضد إسرائيل ذات تأثير فعلي في إبراز الجرائم والمجازر التي ترتكبها إسرائيل يوميا على مسمع ومرأى المجتمع الدولي بأكمله، لكنها في حقيقة الأمر تبرز لشعوب العالم ما تقوم به هذه الدولة وتبرز للمجتمعات والدول التي لا تدرك ماهية تلك الجرائم الصهيونية في فلسطين.
ووسط تعتيم عالمي خصوصا في بعض الدول الغربية التي تتكتم وتمنع الحقيقة عن شعوبها، تأتي تلك المبادرة لتظهر مدى عدوانية إسرائيل وانتقامها غير المبرر ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
وعلى العموم، فإن تلك المبادرة قد أبرزت أمورا مهمة جدا على الصعيد الدولي فأظهرت ما كانت تخفيه وسائل الإعلام في العالم وأوروبا خصوصا التي يسيطر على معظمها اليهود لتمنع ظهور الحقيقة وتكشف صورة هذا الكيان الصهيوني وممارساته على مدى عقود وسنوات مضت من جانب، ومن جانب آخر فإن مبادرة جنوب أفريقيا تبرز وجها مهما لها كدولة لطالما عانت من نظام الفصل العنصري في فترات سابقة.
إن جنوب أفريقيا تعتبر الأخبر بما يعنيه الفصل العنصري وممارسات دولة التمييز العنصري التي كانت في أواخر القرن الماضي، وتبدو أيضا القواسم المشتركة بين الدولتين (إسرائيل ودولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا) وهما وليدتا التاريخ نفسه، والأيديولوجيا نفسها وآليات الحكم نفسها، وعلى نحو كبير السيطرة على أرض الآخرين واحتلالها بالقوة، وذلك خلال التمدد الاستعماري الأوروبي، إلى كل قارات العالم، ابتداء من القرن السادس عشر، واعتماد أيديولوجيا دينية عنصرية لتبرير الغزو والاستيطان وإعطائه شرعية يتمسك بها المستعمرون واتباع سياسة الإبادة الجماعية والتهجير للاستحواذ على أراضي السكان الأصليين، أو وضعهم في «بانتوستانات» تمكن من مراقبتهم وتسييرهم عن بعد دون التكفل بحاجياتهم المادية، فما بالك باحترام حقوقهم الإنسانية. وإنشاء واقع حرب دائمة مع السكان الأصليين ومع دول الجوار لفرض سيطرة كاملة ونهائية، وخلق مناخ مسموم داخل المجتمع مبني على القوة والصلف والاستعلاء للمنتصرين، وعلى التحقير والإذلال للمقموعين.
وطوال الفترة الممتدة بين الستينيات والتسعينيات كان الكثيرون لا يفرقون بين إسرائيل وجنوب أفريقيا لتشاركهما الوثيق في هذه الخصائص وعلاقتهما القوية، ولم نكن مندهشين من مستوى التعاون بين الدولتين الذي كان يقال آنذاك، إنه يشمل حتى السلاح النووي، أو ان الدول الاستعمارية القديمة نفسها كانت تدعم الدولتين بالكيفية نفسها،
ثم وقعت القطيعة المطلقة بداية التسعينيات عندما اتخذت جنوب أفريقيا مسارا، وإسرائيل المسار المعاكس، فبينما كان مانديلا ودوكلارك يتفقان على إنهاء نظام «الأبارتايد»، وبناء دولة قانون ومؤسسات، لشعب من المواطنين بغض النظر عن أصولهم العرقية والدينية وإحلال السلام في الداخل ومع الجوار الأفريقي، رأينا شخصا مثل نتنياهو ومن معه من اليمين، ثم اليمين المتطرف، يتصدون لكل الحلول السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وحل إقامة الدولتين، ثم رأينا سياسة الانتحار الأخلاقي والسياسي عبر التوسع بالاستيطان والحصار والحروب المسترسلة التي أوصلتنا للكارثة الحالية. وبناء عليه، فإن مبادرة جنوب أفريقيا تشكل بارقة أمل إيجابية ومميزة تجاه أشقائنا في «غزة» انتصارا لهم وتخفيفا لما يعانونه.
اللهم خفف عنهم وانصرهم بنصرك يا عزيز يا جبار.
والله الموفق.
[email protected]