هل صحيح ان بعض الناس على تلك الصورة من الأنانية حتى انهم لا يتصرفون الا بدوافع المصلحة؟! هل النفاق هو شريعة التعامل بينهم؟ هل خلت النفوس من الصفاء والقلوب من المحبة؟! وهل نحن مثل الآخرين ننافق ونتملق ولا نتعارف الا بوحي المصلحة؟
تساؤلات كثيرة دارت في خاطري وانا استمع الى شكوى صديقتي والتي أصبحت أرملة في ليلة وضحاها بعد ان توفي زوجها اثر حادث سيارة أليم، قالت لي صديقتي الشابة الجميلة ذات النبرات الحزينة كان زوجي رجلا اجتماعيا علاوة على مركزه العملي والأدبي الكبيرين وربما بحكم مهنته التي كانت تحتم عليه كثرة الاتصالات بالعديد من الشخصيات، عشت معه حياة اجتماعية واسعة.
الدعوات كانت تنهال علينا رنين التلفون لم يكن ينقطع وكان زوجي بطبيعة عمله كثير الأسفار وأشهد ان السؤال عني وعن الأولاد من جانب أهله وأصدقائه وزملائه ومعارفه لم يكن أبدا يقل في غيابه عنه في وجوده ان لم يكن يزيد.
كانوا يتسابقون الى تقديم خدماتهم والى إظهار اهتمامهم في غيابه لم نترك وحدنا وكانت مجرد إشارة مني تعتبر أمرا واجب التنفيذ، وعند عودة زوجي كنت أحدثه عن اهتمام الجميع ورعايتهم لنا في غيابه.
طبعا كان يحرص على شكرهم وأيضا على رد جميلهم وبعد ان ذهب زوجي فجأة وخلال أيام الحداد الأولى التف حولي الجميع ظننت ان سؤالهم ورعايتهم واهتمامهم كل ذلك سيستمر تماما كما كان في السابق، ولكنني اكتشفت بمرور الأيام ما أذهلني بل صدمني فقد بدأ الناس ينفضون من حولي الى الحد الذي وصل ببعضهم الى عدم تكليف نفسه مشقة الاتصال للسؤال عنا، وتستمر صديقتي في وصف معاناتها قائلة: طبعا ليس كل الناس لأنني على صلة بصديقات لا يفارقانني ولكنني أتكلم على العموم، وأخيرا أدركت السبب في كل مرة سابقة كان غياب زوجي تعقبه عودته لكن هذه المرة تيقن الجميع انه لن يعود أبدا وانتهت المصلحة وسقطت الأقنعة وظهر البعض على حقيقته.
فعندما كانوا يهتمون بالسؤال عنا لم يكن ذلك إكراما لسواد عيوننا أو لدوافع إنسانية صادقة وإنما كانوا يتملقون الرجل لمركزه وللوصول عن طريقه الى إرضاء نزعات غرورهم أو لقضاء مصالحهم.
وهنا سألت نفسي هل حقا هذه حقيقة الناس؟ وسرعان ما استنكر المنطق هذا التعميم الذي يتنافى مع التفكير السليم وما دمت استثني أنفسنا وانفي عنها شبه ما تتهم به الآخرين فنحن اذن نعترف بوجود بذور الخير والإنسانية، وان واجبنا يفرض علينا ان نتريث في أحكامنا على الآخرين، وان ننظر الى تصرفاتهم نظرة واقعية وألا نحاول ان نطالبهم بما لا يستطيعون ان يبذلوه.
والواقع قلت لصديقتي ان فئة كبيرة ممن في وضعك لهم أوهامهم فيتصورون ان ابتعاد الآخرين مقصود، لكن ربما ابتعادهم عنك جاء خشية همسات السوء أو خوفا من الإغراء فأنت أرملة وامرأة جميلة ووحيدة ويمكن ان تكوني مطمعا، لذلك تحرص بعض الزوجات على ابعاد أزواجهن عنك، وأنا لا أنفي ان ذلك ربما قد يحدث من أفراد قليلين ولكنه يدور كثيرا في رأس صديقتي ويملأ خيالها فيدفعها الى السلبية مع الجميع بلا تفرقة بين الطيب والخبيث، ومع ذلك كله فإننا يجب ان نتريث في احكامنا على الآخرين وان ننظر الى تصرفاتهم نظرة واقعية وألا نحاول ان نفترض في الناس أكثر مما يستطيعون ان يبذلوه، وان نخلص أنفسنا من شوائب الخوف ومزاعم الكبرياء وقبل أي شيء آخر يجب ان نتعلم العطاء.
ولا يعني ذلك إنكار وجود المنافقين فهم موجودون دائما في كل مكان وفي كل شريحة وفي كل الظروف لكن وجودهم يجب ألا يضللنا عن الحقيقة ويدفعنا الى التعميم المطلق، ويجب ألا ينسينا صورا رائعة للإنسانية في أسمى معانيها تعيش بيننا وتأسرنا بجمالها وظلالها.
ورغم ذلك فمن الضروري ان أؤكد على حقيقة مهمة وهي: انه من السهل على الجميع ان يأخذوا ولكن الصعوبة كل الصعوبة في العطاء.
[email protected]