يسألونني.. لماذا تصمتين طويلا؟ وتتحدثين قليلا؟ ولا تسترسلين كثيرا؟
يقال بأن «حسن الاستماع قوة للمتحدث»، وأن «من لا يملك خلق الاستماع لا يجيد فن الحديث».. وهو ما يعني أن الإنصات صفة أخلاقية ومهارة لازمة ومكملة لفن الحديث.. لكن أعجب ملامح عصرنا هو افتقاده لحسن الإصغاء، فالكل حولنا يتكلم ولا أحد يسمع، لأن الكثير منا يود أن يكون هو المتحدث لا المستمع.. جميعنا ينزع إلى الاعتقاد بأننا نصغي جيدا، والواقع أن معظمنا وفي أكثر الأحيان لا يستوعب من حديث الشخص الآخر سوى نصفه، مع العلم بأن القدرة على الإصغاء أمر ذو أهمية في أي علاقة إنسانية، لأن له أثرا عميقا على مشاعر من نتعامل ونتحدث معهم، فبحسن الإنصات تشتعل المودة وتشرق المحبة، فيسهل الطرق على القلوب..
وإذا كان الواقع يقر بحاجتنا لهذه الفضيلة، ويبدو أن حاجة المجتمع لتأصيل مهارة الإنصات كبيرة جدا، فهذا ما يؤكد «أننا نعيش أزمة إنصات تبحث عن حل».
في القرآن، امتدح الله عز وجل، حسن الاستماع وحث عليه أنبياءه عليهم السلام.. وقد علم القرآن العظيم ذلك كأدب شريف من آداب تلقي الرسالة القرآنية فأمر بالاستماع له والإنصات (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، كما زجر كل نافر عن الاستماع، لاه عن الإنصات للنصح والإرشاد، فقال سبحانه: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها).. بل لقد بشر الله عباده الصالحين الذين يحسنون الاستماع والعمل بما سمعوا، فقال - سبحانه: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
ولا شك أن حسن تلقي الرسالة التربوية التعليمية يعتمد في المقام الأول على إحسان الاستماع إليها والإنصات، وقد أمر الله - سبحانه - في كتابه بالاستماع غير ما مرة في سبيل بيان أهمية هذه الخطوة، فقال - سبحانه: (واتقوا الله واسمعوا)، وقال: (واسمعوا وأطيعوا).
وكان صلى الله عليه وسلم خير من أتقن هذا الفن، فأنصت للكبير والصغير.. والغني والفقير.. أنصت إليهم بقلبه لا بسمعه، فملك بذلك القلوب والعقول.
النفس بطبعها تميل الى الكلام، لأنه السبيل للتعبير الطبيعي عن الذات.
ولكن التواصل لا يكون بإعمال الأفواه وإهمال الآذان، وعليه فالإنصات فن يصعب إتقانه إلا بعد الكثير من الجهد وترويض النفس وكبح جماح رغباتها.
وقد جاء عن السلف عنايتهم بذلك فورد عن الحسن قال: «إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تعلم حسن القول ولا تقطع على أحد حديثه».
ويقول أحد السلف: والله إني كنت أنصت للحديث وقد سمعته عشرات المرات كأنني سمعته لأول مرة، وهذا من الأدب.
وحتى ان كان بيت شعر معلوما لديك، فأظهر له أنك احتفيت به، فهذا من خلق المؤمنين، لأن بعض الناس عبوس لا يريد إلا الذي عنده، وبعضهم إذا تكلمت لا ينصت لك أبدا، فتراه شارد الذهن، وهذا ليس من الاحترام، فما دام أنك تحاور فأقبل بقلبك وبعينيك إلى من تحاوره، ليعلم أنك تحترمه، وأنك تريد الحق.
انصت.. يحبك الناس.