من منا لا يتذكر مشاهد من أسواق الخضار والفواكه والباعة الذين ينادون بأعلى أصواتهم للترويج ودعوة الناس للشراء، هذا المشهد سيبقى محفورا في الذاكرة في زمن باتت العولمة أو الحداثة ـ كما يقال ـ فيه كل شيء، حتى طالت الأسواق وطرق التعامل مع الزبائن أو التسويق بحسب اللغة المعاصرة، فبين ذاك الترويج وهذا التسويق مساحات شاسعة في التعبير عن تطور الفكر البشري، ولعل هذا هو ما دفعني لكتابة هذه السطور.
ما أهدف إليه ليس القدح أو المدح، ولا الدعاية أو التثبيط، كل ما أريده هو أن أرسم صورة حضارية للمستوى الذي وصلت إليه بعض أسواق الخضار في زمن العولمة وبقاء بعضها ـ للأسف ـ على حاله، فلا يمكنني أن أخفي انه في هذا العصر لم يعد مقبولا ان نشهد كما يقال تلوثا بصريا، فالعين المجردة باتت أكثر تفكيرا في الصحة العامة والنظافة والترتيب، وتتابع عن كثب آلية التسويق والعروض المطروحة.
تعالوا معي نتجول قليلا في سوق الصليبية أو كما تحبون أن تطلقوا عليه «الفرضة»، هذا النموذج لا أشك في أنه لم يكن بهذه الحداثة يوما، فهو تطوير لسوق قديم من قبل شركة مبدعة، استطاعت ان تجعله متميزا بكل المقاييس ومعرضا مشوقا للعين والنفس بكل امتياز.
لن تصدق وأنت في الفرضة أنك في سوق للخضار والفواكه، مساحات واسعة، بسطات منتشرة في كل مكان، خدمة راقية، أسلوب حضاري في التعامل، رقابة صارمة، جودة عالية للسلع والمنتجات، تنوع كبير في الأصناف، باختصار كل ما تريده تجده هناك، وأجمل ما ستراه التنظيم المذهل والعبقرية في التسويق.
لا أكون مبالغا إن قلت إن الشركة التي تنظم المزاد والتي عليها مسؤولية إدارة السوق نجحت في مهمتها، مع أنني لا أعلم إلا القليل عنها قبل كتابة هذه السطور، ولكن ما أعرفه أن ما قامت به يتحدث عنها، والسوق أمامنا مثال حي وواقعي لمواكبة التطور الحاصل في العالم.
من الجيد أن تعلم أن ما تشتريه من هذا السوق يخضع لفحوصات من إدارات مختلفة ومتخصصة، لا تقل: إنك تبالغ، لأني سأرد بأن هذه هي الحقيقة اذهب وانظر بعينيك لترى أن المنتجات المعروضة تخضع لرقابة عدة جهات، ولا تصل إلى يدك إلا بعد التأكد من جودتها.
ما رأيته دفعني لسؤال بعض مسؤولي السوق عن مصداقية ذلك، فقالوا لي إن هناك مختبرا أيضا يجري العمل على افتتاحه قريبا وهو خاص بالسوق، يعد الأول من نوعه في عمليات الفحص للمنتجات المحلية والمستوردة، وتلك التي يتم رشها بالمبيدات، كما سيكشف حالة التربة والمواد الصالحة للاستخدام الآدمي.
فأي نجاح بعد هذا النجاح؟ فروق كبيرة في الأسعار بين هذا السوق وبعض الجمعيات التعاونية، أريحية في التسوق والتعامل وخصوصا إذا كانت الأسرة بصحبتك، فالمكان مكيف بشكل رائع، كل شيء فيه قائم على التكنولوجيا ابتداء من عمليات استقبال الخضار والفاكهة من الموردين المحليين والمصادر الخارجية مع حسابات مفوترة بين السوق والمزارع، هذا كله والشركة ليست طرفا في البيع والشراء بل هي مشرف عليهما فقط ووسيط، والمنتجات تقدم بأسعار الجملة، إلى جانب وجود مخازن كبيرة للتبريد تحفظ هذه السلع كل فاكهة حسب ما تتطلبه ووفق معطيات علمية صرفة.
بالطبع هذا ليس كل شيء، فاشتراط الجودة في المنتج على المزارعين المسوقين في سوق الفرضة أدى بالمزارع الكويتي إلى تقديم إبداعاته في إنتاج الأفضل بما يلائم تطلعات المستهلك بصورة حضارية مميزة مع إنزال النخب الأول والثاني للفرضة وتوزيع الباقي على الأسواق الأخرى.
نعم، إنها نزهة رائعة في سوق مكيف، نظيف، مجهز، وحتى إن كان أبعد في المسافة ببعض الكيلومترات إلا أني وجدت فيه الضمان الصحي لنفسي والاستقرار السعري لجيبي، ويا ليت الجمعيات تقارن أسعارها بسوق الفرضة ولا تقوم بمقارنتها مع مثيلاتها فقط.
بعد خروجي من السوق، قفزت فجأة إلى مخيلتي تلك الذاكرة القديمة عن الأسواق المتهالكة التي بالكاد تتوافر فيها بعض الأصناف وتمشي تحت أشعة الشمس اللاهبة لتحصل على القليل مما تريد، ومع ذلك لا مانع على الإطلاق من أن أنعش هذه الذاكرة من خلال زيارة لسوق الأندلس الذي تم تشغيله كمنفذ تسويقي مرادف لسوق الفرضة، لماذا؟ باختصار لتسويق منتجات المزارعين.
لا أعلم هل أنا مسرور أم منزعج، فأنا لا أذكر هل أنا في القرن الواحد والعشرين أم العشرين، مساحة صغيرة، لا تنظيم، لا عوامل جذب للمستهلك، السلع مبعثرة في كل مكان، وكأني أمام سوق تقليدي لا يرقى لمستوى ما يطمح اليه المواطن.
الجودة تتراوح غالبا بين النخب الثالث والرابع والنفلة التي لا ينفع معها السعر المنخفض، وكأن السوق جدران فقط يحوي منتجات متنوعة، تفتقر إلى أبسط مفاهيم الترويج لا التسويق، وهذا يدفعني لأن أدعو من يديرون سوق الأندلس إلى العيش في القرن الواحد والعشرين والتنبه إلى ضرورة مواكبة العصر والتطور، مع جعل خدمة المستهلك أولوية.
٭ كلمة أخيرة: ليت تجربة سوق الفرضة يتم تعميمها في كل الأسواق والمرافق، لتكون الكويت كما نريد دولة تسير مع التيار لا عكسه.