@DrNawras
كنت ألقي محاضرة عن المغالطات المنطقية وأخبرت الحاضرين أن ابن العماد له كلام عظيم عن العقل وإدراكه، حيث يقول: «أنت لا ترى كل شيء من حولك كما هو حقا بل ترى ما تعرف وبالطريقة التي تتصورها عنه» وشعرت وكأنهم لم يسمعوا به من قبل فقلت: جاء ابن العماد في زمن أتى بعد ابن خلدون الذي توفي عام 1406 ميلادية وكان لابن العماد صيت ذائع وقد وصل كلامه أقاصي الشرق والغرب ووصلت كتاباته الصين وبلاد الأندلس.. وقلت لهم لو أخبرتكم بأن ابن العماد لايزال حيا وسكت.. فما الذي قد أعنيه بكلامي؟
منهم من قال هو حي بكتاباته ومنهم من قال هو حي بأثره على الآخرين وقلت لماذا لا يكون حيا بجسده ولحمه ودمه؟ استنكروا كلامي وقالوا كيف له أن يكون حيا وعمره قد يقدر بـ ٦٠٠ سنة؟
أجبتهم: ابن العماد واقف أمامكم بشحمه ولحمه.. نسيت أن أخبركم بأن أبي اسمه عماد! وأتيت في زمن بعد ابن خلدون ولي صديق مترجم يتابعني من الصين وآخر في إسبانيا! لم أكذب ولكن هكذا رتب لهم عقلهم الصورة عندما سمع ابن خلدون والصين وبلاد الأندلس!
العقل يقوم بتحليل المعلومات وترتيب المعطيات بطريقة تجعلها متناسقة ومترابطة قدر الإمكان ويأتي بما تعرفه مسبقا ليتناسب مع ما تسمعه أو تراه فعندما تكون في مكان يغلب عليه اللون الأصفر فإن أول اسم سيخطر في بالك غالبا إن طلبت منك اسم فاكهة هو الموز ويطلق على هذه الظاهرة اسم Priming Effect.
ميزة الترتيب والتنظيم يتم تضليلها دوما خلال اليوم بقصد أو غير قصد! ما تراه ما هو إلا نتيجة لحالتك النفسية وترتيب المعطيات ومخزونك المعلوماتي.
لذا، فإنه من غير الضروري أن يقنعك أحدهم بفكرة أو يناقشك فيها، بل سيخلق لك البيئة المناسبة لها فقط وأنت ستتبناها وتعتقد بأنك حر في اختيارك.
العقل كعربة القطار والسياق العام لعرض المعلومات وانطباعاتك المسبقة هي السكة التي يمشي عليها العقل، وكلما انحصر تفكيرك وثقافتك انحصر إدراكك وسهل على الآخرين تضليلك، فالعقل لا يرى الأمور الجديدة كما هي بل يستخدم قياسات قديمة ليكون الصورة الجديدة ويحاول فهمها! لا يستطيع الإنسان الخروج عن هذه الفطرة مهما بلغ وعيه ولكنه قادر على تحجيم قدرة الآخرين على توجيهه، ووعيه بإمكانية تضليل العقل كفيل ليحميه منها بنسبة لا بأس بها.
نشرت وسائل الإعلام الروسية ذات مرة الخبر التالي: «في سباق جرى يوم أمس فاز السفير الروسي بالمركز الثاني، بينما جاء نظيره الأميركي بالمركز قبل الأخير».
ستعتقد بأن الروسي قد تفوق ولكن الأميركي هو من فاز، فالسباق كان بينه وبين الروسي فقط! والمركز قبل الأخير في هذه الحالة هو المركز الأول!