بعض العبارات تأبى إلا أن يتحشرج الصدر بها قبل أن تخرج، ثم تنسكب والحزن يسيل من حروفها..
سلطنة عمان من أدناها إلى أقصاها تنعى كبيرها وصانع مجدها الحديث.. فاللهم اغفر للسلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، وتقبله برحمتك الواسعة.
فقدنا رجل سلام وحكمة، حفر اسمه في قلوبنا وقلوب أهل عمان والعالم، وامتطى صهوات العطاء بين الشعوب في البناء والإنجاز، بتفرد حضاري وإنساني يحتفظ بقوته واستقلاليته في شتى البقاع من بحار وسهول وجبال وصحارى.
يشهد كل ذي نظر لأبناء عمان ـ أبناء قابوس ـ بالبطولات، وهم الذين تحطمت على أبواب قلاعهم نوايا الطامعين، وعاد كل معتد من سواحل خليجهم يجرجر ذيول الخيبات..
كان الإنسان العماني وقود السفن التي أبحرت عبر التاريخ رافعة صواري العزة.. وأصبح في عهد قابوس وقود المجد ونيشان الفخار.
لا شك أن النهضة التي شهدتها عمان كانت تخلب الأنظار وتسلب الألباب، ولكن اليوم صارت المسؤولية أكبر لإكمال نهضة أخرى أرسيت دعائمها في عهد الراحل السلطان قابوس حتى صارت عمان دولة المؤسسات والقانون والبناء والعلم.
صحيح أن المصاب جلل، والألم مر، والفراق صعب، وتعويض رجل بحجم السلطان الراحل ليس سهلا، ولكننا مليئون أملا بأن عمان ستبقى سائرة على نهج التقدم والتطور، لتكتب تاريخا استثنائيا له جذور حضارية وفق معالم دولة عظيمة وصلت إلى ما هي عليه اليوم.
لقد عمل السلطان الراحل منذ بداية سنوات النهضة المباركة على تنشئة أبناء عمان وشبابها، ووجه الجميع رجالا ونساء، وهيأهم ليدعموا ويساهموا في تنمية هذا الوطن، ليكون له وجود على خارطة العالم حضاريا وإنسانيا، بل على مختلف الأصعدة.. وليترك بصمة إرث أصيل لإمبراطورية امتدت شرقا وغربا.. ولاسيما أن دور عمان وسلطانها واضح في استقرار السلم العالمي والإقليمي.. فجزى الله هذا الرجل عن عمان وأهلها وعن الأمة الإسلامية والعالم كل خير، فهو الربان الكبير، الذي ستفتقده الأمة والعالم.
يا إخوتي.. يا أبناء عمان العزيزة على قلوبنا، إن الأمانة اليوم في أعناقكم عظيمة، فاستلهموا جذورها من الإرث الغني الذي تركه والدكم، وخذوا بحظ وافر من تاريخكم القريب والبعيد، فأنتم أبناء مجد تليد، وكلكم اليوم مدعوون للسير على خطى مؤسس النهضة الحديثة، الذي تعلمون ـ ونعلم ـ أنه صنع لبلدكم موقعا في المحافل الدولية.. وسار بخطوات عملاقة لينعم أهل عمان بالاستقرار، وامتلك القوة الناعمة الحكيمة، فارتبط اسمه بمعاني الإنسانية غير المحدودة.
شمروا عن سواعد الجد والاجتهاد لإكمال درب التقدم والتطور.. وأنتم أهل لذلك بعون الله تعالى شعبا وحكومة وجيشا ذائدا عن الحمى وسلطانا مؤيدا.. وبهممكم العالية، يا أهل عمان، ستواصلون البناء والتقدم والرفعة.. آخذين بوصية السلطان قابوس التي أوصى بها من أجلكم ومن أجل بلدكم.
إن الحزن على تلك القامة السامقة أمر مشروع، فالقلب يحزن والعين تدمع، وهي ترى جنازة سلطانها تسير من (بيت البركة) إلى مقبرة العائلة المالكة في ولاية (بوشر)، موشحة بعلم عمان، تودعه جموع الأهل والأبناء، كما أراد، راجين له أن يخلد إلى نور البركة الأبدي.. ولتبقى سيرته في ذهن التاريخ الإنساني خالدة ملهمة.
لا بد للعبرة من أن تسيل وهي ترى مشهد الحزن يغطي أجيال النهضة التي تصطف جموعا، وتلك الصفوف المحزونة من عناصر القوات المسلحة التي أسسها الراحل الكبير بكل عناية ورعاية لتكون درعا لعمان وأهلها.
يا أمة عمان، رجالا ونساء، نشاطركم الحزن ونعزيكم بوفاة فقيدنا وفقيدكم السلطان قابوس.. وأنتم ستظلون في قلوبنا شعبا شقيقا وفيا، ونوصيكم بأن تزدادوا تمسكا بالعهد الوثيق، في لحمة وطنية يضرب بها المثل، وفي منظومة فريدة لجيشكم العتيد الذي لا ينقصه التطور والتسليح والتدريب والكفاءة، وتذكروا أن التآزر والتلاحم يحفظ لكم أنفسكم وبلدكم مع السلطان الجديد الذي سيرفع الراية وسيحمل الأمانة بكل كفاءة وقوة، رفعة السلطان هيثم بن طارق، حفظه الله وهداه للخير والحق، ونحن على ثقة بأنه خير خلف لخير سلف، وبأن سلطنة عمان في عهده ستستمر على نهج السلطان النموذج سواء في سلاسة انتقال السلطة، أو في ما يسير به من حكمة نحو مستقبل عمان.. وبتقسيم الأدوار بالحنكة لحفظ نعمة الأمن والأمان التي عاشت بها السلطنة ردحا من الزمن.
اللهم إن نسألك أن تكرم مثوى قابوس بن سعيد بن تيمور، وأن ترحمه في كل ذرة خير أودعها في بلده وأرضه وأبنائه.
* أديبة كويتية