واشنطن ـ أحمد عبدالله
يخاطر مجلس الأمن في هذه الأيام الصعبة بوضع نفسه مرة اخرى «على الرف» والخروج طواعية من مسرح حدث، تأسس المجلس أصلا للتعامل معه سعيا الى الوصول الى حل.
وتدل متابعة ما حدث في نيويورك خلال الايام القليلة الماضية وبصرف النظر عن النتائج الهزيلة المتوقعة على ان المجلس ـ الذي خلق لمعالجة الحروب والنزاعات الاولية ـ يبدو مصمما على ان يخسر كل جولة من جولات عمله بشأن أكثر مناطق العالم معاناة من الحروب والنزاعات الدولية.
أول من امس على سبيل المثال، وبينما كان المجلس مطالبا بإنهاء مشاوراته المطولة واتخاذ موقف واضح، لاسيما ان عددا من وزراء خارجية الدول دائمة العضوية والدول العربية شاركوا في المداولات، فقد استغرق المجلس اليوم بطوله في حوارات عقيمة حول قضايا لا صلة مباشرة لها بالمأساة التي تتابع حلقاتها أمام أعين العالم في كل لحظة تمر ليترك ذلك شعورا بالمرارة حتى لدى بعض الصحافيين الأميركيين والفرنسيين الذين تابعوا هذه المسرحية الديبلوماسية سيئة الإخراج.
فقد بدأ اليوم باتهام ثان لمصر بأنها مشاركة في جرائم الحرب التي تحدث في غزة وذلك بعد اتهامها من قبل المندوب البريطاني بانها سهلت تهريب الصواريخ الى القطاع، وجاء الاتهام الثاني تلميحا على لسان مندوبة منظمة «هيومان رايتس ووتش» في الامم المتحدة سارة لي ويتسون اذ قالت وسط جمع من الصحافيين ان اصرار المصريين على عدم فتح معبر رفح دون ان يعود الى إشراف السلطة الوطنية الفلسطينية يمكن ان يعرض القاهرة للمساءلة حول مشاركتها في «جرائم حرب» إذ ينص القانون الدولي «على فتح منافد آمنة أمام المدنيين الفارين من أعمال العنف وتجنب حقن اي اعتبارات سياسية في الموقف من تلك المنافذ».
ورد روبرت سيري ممثل المنظمة الدولية في الاراضي الفلسطينية قائلا «انني اشعر بالدهشة والحيرة معا من مزاعم السيدة ويتسون اذ ان المصريين يقدمون مساعدات كبيرة لغزة بما في ذلك فتح المعبر امام المساعدات القادمة من دول اخرى» والمشكلة بطبيعة الحال ليست هي مناقشة الموقف المصري.
ذلك ان اي اتهامات بالمشاركة في جرائم حرب تعني ضرورة الحديث اولا عمن يرتكب في الاصل تلك الجرائم اي عن اسرائيل.
وبينما يفترض ان تلجأ «هيومان رايتس ووتش» الى القضاء الدولي مع منظمات اخرى لوقف تلك الجرائم التي ترتكبها اسرائيل فإن الأمر يتحول الى تشتيت الانتباه باتهام آخرين بالمشاركة في جرائم دون الحديث عن الطرف الذي يرتكب تلك الجرائم.
بعد ذلك بدأ نقاش آخر عما اذا كان من المناسب تسمية المبادرة التي قدمها المصريون والفرنسيون «المبادرة المصرية والخطة الفرنسية» او «المبادرة الفرنسية والجهود المصرية» او «المقترحات المصرية ـ الفرنسية» او «المقترحات الفرنسية ـ المصرية».
وقد يصعب تصديق ان وضع اسم مصر قبل فرنسا او اسم فرنسا قبل مصر كان بالفعل موضع جدل في أروقة مجلس الأمن أول من أمس، الا ان ذلك بالفعل هو ما حدث.
بينما علق صحافي اميركي كان يغطي وقائع ذلك اليوم في المنظمة الدولية قائلا لعضو بالوفد الفرنسي «هناك أطفال يموتون كل لحظة. هل يمكن تجاوز تلك النقطة من فضلكم؟».
ولم يكن ذلك هو المظهر الوحيد لضيق الصحافيين مما يحدث.
ففي ظهور عضو الوفد الفلسطيني صائب عريقات مثلا امام الصحافيين قال عريقات «اننا نخاطر بتكرار ما حدث خلال مناقشات العدوان الاسرائيلي في جنوب لبنان اذ لم يتخذ مجلس الامن قرارا الا بعد 18 يوما».
وهتف صحافي عربي مصححا «بعد 33 يوما» فقال عريقات في تصحيح للتصحيح «الحرب هي التي استمرت 33 يوما ولكن مجلس الأمن استغرق 18 يوما لاتخاذ قرار».
وانصرف الجميع للبحث عن الحقيقة بين ما قاله الصحافي وما قاله عريقات فيما استمرت مداولات المجلس واستمرت المذبحة المهينة لأي مشاعر إنسانية بالمرة.
بعد ذلك بدأ البحث في صيغة البيان الرئاسي، والبيان الرئاسي هو «الاسم الحركي» لعملية تأجيل اتخاذ قرار ملزم لإسرائيل بوقف المذبحة والعودة الى خطوط 27 ديسمبر.
البيان بالمناسبة ـ طبقا لنصه الحرفي الذي عرض اول من امس ـ يبعث على السخرية إذ انه يعترف ضمنا بانتصار إسرائيل، اي بانتصار الأسلوب الذي يصفه كثيرون بجرائم الحرب.
فهو يبدأ بفقرة تؤكد على ان اي وقف لإطلاق النار «يتطلب ضمانات وإجراءات لمنع التجارة غير المشروعة وإعادة فتح المعابر على أساس اتفاقية 2005»، وبعبارة اخرى يطالب البيان الرئاسي بالعودة الى السياق الذي أدى الى هذا العدوان الاسرائيلي الحالي.
اي انه بلغة صريحة يمهد لحرب اخرى.
وفي أروقة مجلس الأمن استمرت المشاحنات ولكن بين الصحافيين فقط، فقد سأل احدهم وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس «لماذا تعارضين صدور قرار؟».
ولم ترد رايــس التي كانــت تتأهــب للمغــادرة وإنما رد صحافي موال لإسرائيل قائلا «القرار لن يكـون حلا»، ما هو الحل إذن؟ ذبح المزيد من الأطفال؟
وزير الخارجية البريطانية ديڤيد ميلباند قال ان العالم يريد ان يرى قرارا من مجلس الأمن.
والاسرائيليون حائرون في فهم الطريقة التي بدأت بها حصونهم من الاكاذيب الاعلامية تتآكل بسرعة لينتقل الرأي العام الدولي بمعدلات متزايدة الى الشارع مطالبا بوقف المجازر والفرنسيون يبحثون في تفصيلات ملليمترية وفي تعبيرات بروتوكولية لا تتلاءم مع حجم المأساة وضرورة الإسراع بوقفها والعرب يحاولون، وخلال كل ذلك تواصل إسرائيل جرائمها في غزة أمام أعين الجميع.