في معزل عن الخلفيات الدولية والاعتبارات الضاغطة التي أملت قرار مجلس الأمن في السابع والعشرين من الشهر الماضي بالتمديد لقوات اليونيفيل العاملة في جنوب لبنان تنفيذا لأحكام القرار 1701، ولسنة اضافية من دون أي تعديلات في مهماتها أو في قواعد الاشتباك، بما ينطوي عليه من تسليم بالواقع القائم جنوب الليطاني ومن تمديد للمشكلة الكامنة وراء واجهة الاستقرار، يمكن القول اعتبارا من نهاية اغسطس إن الوضع الميداني في منطقة الحدود الدولية سيكون صورة طبق الأصل عما كان عليه طيلة السنوات الماضية. ووفق محلل استراتيجي في بيروت سيبدو المشهد من الجانب اللبناني على الشكل التالي:
- أولا، قوات دولية تابعة للأمم المتحدة محرومة من الصلاحيات التي تخولها رصد الانتهاكات التي تطال القرار الدولي، خصوصا فيما يتعلق بتمرير السلاح وتخزينه، ومقيدة بقواعد عمل صارمة تمنعها من التدخل إلا تحت مظلة الشرعية اللبنانية، وهو ما يحولها في المحصلة النهائية قوات مراقبة لا حول لها ولا قوة.
- ثانيا، جيش لبناني مقيد في مهمته وفي ادائه بمجموعة من الاعتبارات السياسية منها المتصلة بموقف الحكومة الرسمي من «المقاومة» وحمايتها وعدم التصدي لحركتها، ومن الاعتبارات الذاتية المتصلة بعقيدته العسكرية التي ترسخت على مدى العقدين الماضيين وأدت في نهاية المطاف الى تسليم المؤسسة العسكرية بالدور العسكري الذي يتولاه حزب الله والى مؤازرته ولو بما يتعارض مع أحكام القرار 1701.
- ثالثا، حزب الله الذي يتحرك على مستوى الساحة اللبنانية في شكل عام والساحة الجنوبية في شكل خاص بحرية كاملة، وإن مستترة، ومن ضمن هامش واسع من المناورة يتيحه موقف القوتين الشرعيتين المولجتين بتطبيق القرار الدولي. ويعمل في شكل حثيث ومستمر على تعزيز ترسانته العسكرية من صواريخ وأسلحة وتقنيات متطورة انطلاقا أولا من قناعته بمعادلة الردع المتبادل (وهي المعادلة التي يعتريها الكثير من المغالطات والعاهات الخطيرة) التي من شأنها منع اسرائيل من الاعتداء على لبنان، وانطلاقا ثانيا من التزاماته الاقليمية التي تفرض عليه الاستعداد العسكري الدائم والمتواصل لدعم المشروع الجهادي الأوسع الذي ترسم خطوطه في طهران. وبمقدار ما يبدو الوضع القائم جنوب الليطاني معللا من المنظور اللبناني باعتبارات الأمر الواقع والحسابات الداخلية، ومنسجما مع القواعد التي تحكم عمل قوات اليونيفيل، ومع العقيدة القتالية للجيش اللبناني، ومع التكليف الذاتي لحزب الله بالدفاع عن لبنان وعن الأمة بكاملها ضد أطماع الكيان الصهيوني. سيكون تقويم المشهد في نظر المحلل الاستراتيجي مختلفا في صورة جذرية من الجانب الاسرائيلي والى الحد الذي سيضع القيادة الاسرائيلية في شقيها السياسي والعسكري أمام الخيارات الصعبة. ففي تقويم اسرائيل ستكون صورة الوضع العام في الجنوب اللبناني مشتملة على خليط من المكونات الخطيرة التي تجعل منه اكثر الساحات تهديدا لأمن الكيان العبري، من جهة أولى بعد احجام مجلس الأمن عن اجراء ما تراه تل أبيب تعديلات ملحة في عمل قوات اليونيفيل بما يتوافق مع متطلبات التنفيذ السليم للقرار الدولي 1701، وما سينتج من قرار التمديد للظروف القائمة من ترسيخ لحال العجز التي تلازم القوات الدولية وتمنعها من الوفاء بالتزاماتها، وفي ذلك ما يسقط مقولة التعويل على المجتمع الدولي وقرارته في هذا المجال.
وانطلاقا من جهة ثانية من تقويم اسرائيل الموقفين السياسي والعسكري الرسميين للسلطات اللبنانية، إذ ترى في الأول تماهيا مع توجهات حزب الله، في معزل عن الأسباب، وانصياعا لإرادته، مما يجعل الدولة اللبنانية شريكا كاملا في المسؤوليات المعنوية والمادية. كما ترى في القوات المسلحة اللبنانية لاعبا يقف في خندق «المقاومة» نفسه، ويعمل على تأمين الغطاء لتحركاتها ولانتهاكاتها، كما ورد في أكثر من اتهام اسرائيلي، وما يجعله في نهاية المطاف غير راغب أو غير قادر على تنفيذ القرار 1701، وانطلاقا من جهة ثالثة من الحركة المتمادية لحزب الله تسليحا وتجهيزا واستعدادا والى الحد الذي استطاع معه اعادة التعويض عن مخزونه من الصواريخ الى أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان يملكه عشية حرب يوليو، والى امتلاك منظومات جديدة ومتطورة من الأسلحة. وقد يكون من أشد الجوانب خطورة في صورة الوضع الجنوبي ان كل يوم اضافي من الاستقرار الظاهري الذي تشهده المنطقة سيكون بالنسبة الى اسرائيل بمثابة الموافقة التلقائية على التزايد التصاعدي في ترسانة حزب الله العسكرية كما ونوعا، وبمثابة القبول الطوعي من جانبها بارتفاع الفاتورة المادية والبشرية لمواجهة اخطار هذا الوضع في المستقبل.
من هنا وفي ظل العجز الدولي عن معالجة المشكلة القائمة في جنوب لبنان، وفي ظل تسليم السلطتين السياسية والعسكرية في لبنان باحكام الأمر الواقع، وفي ظل جموح حزب الله واندفاعه في مشروع «المقاومة» والتسلح والربط مع معسكر الصراع، وفي ظل كوابيس الأمن والبقاء التي تقض مضاجع القيادة الاسرائيلية المتطرفة وتدني هامش خياراتها، تكون كل مكونات الخيار العسكري قد أصبحت حاضرة، وكل المناخات والمبررات باتت مواتية لانفجار جديد.
وفي ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من انزلاق مريع نحو اتجاهات الصراع، لن يكون من المستبعد ان يشكل قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رصاصة الرحمة في رأس القرار 1701، وان يدفع لبنان الى شفير حرب قد لا تكون بعيدة.