يحار اللبنانيون في تفسير الأزمة الحكومية الراهنة التي طال أمدها وفي تحديد أسبابها الفعلية. يطرحون الكثير من الأسئلة المشروعة ويحصلون على القليل من الأجوبة الشافية: كيف يعقل بعد انتخابات نيابية ناجحة استحوذت على إعجاب وتقدير المجتمع الدولي ان يحصل إخفاق وتعثر في تشكيل الحكومة؟! لماذا تأخرت ولادة الحكومة، وهل حل عقدة وزارة الاتصالات اذا صح انها العقدة الأساسية وربما الوحيدة، يستلزم كل هذا الوقت؟ واذا كان اعتذار الرئيس المكلف سعد الحريري قبل اعادة تكليفه حصل بسبب وصوله الى «طريق مسدود» وتعذر التأليف، هل حصل ما يؤدي الى فتح الطريق أمامه والى نجاحه في التجربة الثانية، وماذا تغير بين الصيف والخريف؟ هل هي مشكلة حكومة وصراع على الأحجام والحصص، أم هي أزمة حكم ونظام وصراع على الأدوار والقرار والدولة؟!
لا يمكن تجاهل البعد الخارجي في أي أزمة داخلية، حيث ان الوضع اللبناني خاضع لمؤثرات إقليمية وجهات خارجية نافذة، والملف اللبناني شديد الترابط مع ملفات المنطقة، ولكن الأزمة الحكومية الراهنة ليست خارجية، أو بتعبير أدق ليست الأسباب والعوامل الخارجية هي الأهم فيها، وانما هي أزمة داخلية أكثر منها خارجية وتندرج في إطار أزمات متلاحقة وصراع سياسي مفتوح منذ العام 2006 نجم عنه اصطفاف سياسي حاد بين فريقين ومشروعين، بحيث بدت معركة الحكومة جولة في هذا الصراع الداخلي أو جزءا منه، وبدا التأخر والتعثر انعكاسا لوضع داخلي دقيق ومعقد أقرب الى «التوازن السلبي» بحيث لا يتيح لأي من الفريقين قدرة التحكم والحسم ويؤدي الى بقاء الوضع الحكومي معلقا في الهواء والفراغ لمدة طويلة. فلا فريق الأكثرية قادر على ان يشكل حكومة بمفرده، ولا فريق المعارضة قادر على فرض شروطه، والاثنان يملكان قدرة التأخير والتعطيل.
المشكلة تبدأ من الانتخابات الأخيرة التي كان من المفترض ان تخرج البلاد من حال التجاذبات والسجالات والمعارك السياسية والكلامية، وان تحدد بوضوح الجهة أو الأكثرية الحاكمة، ولكن ما حصل ان انتخابات 2009 لم تكن حدا فاصلا بين مرحلتين ولم تنتج وضعا جديدا، وانما كان الوضع الناشئ بعد الانتخابات امتدادا لما قبلها من دون أي تغيير ملموس «على الأرض» وفي الواقع السياسي، حافظ فريق 14 آذار على أكثريته النيابية ولكنه لم يتمكن كما في السنوات الماضية من ترجمة هذه الأكثرية الى «حكومة أكثرية وأقلية تعارض». واعترفت المعارضة بخسارة للانتخابات ولكنها لم تعترف بالنتائج السياسية للخسارة التي تعني تسليم الحكم للفريق الرابح.
تتطلع الأكثرية الى حكومة تعكس نتائج الانتخابات ولا ترى لها دورا وتأثيرا إلا في ذلك، وتتطلع المعارضة الى حكومة تعكس ميزان القوى الداخلي (وهو ما عبرت عنه بالأكثرية الشعبية) ولا ترى إمكانية لغير ذلك، تقول الأكثرية انها قدمت أقصى ما يمكن من تنازلات عندما وافقت على صيغة 15 ـ 10ـ 5 التي لا تعطيها أكثرية النصف زائد واحد، وتقول المعارضة انها قدمت تنازلا مهما عندما تخلت عن «الثلث المعطل»، ولكن الطرفين «يتذاكيان» لأن صيغة الـ «15 ـ 10 ـ 5» هي فعليا «16 ـ 11 ـ 3» وتعطي 14 آذار أكثرية مموهة وتعطي المعارضة ثلثا معطلا مموها، ولكن ثمة خللا أو عطبا خفيا أصاب هذه الصيغة بعدما باتت ترتكز على «توازن سياسي هش» مع انسحاب جنبلاط سياسيا وفعليا من 14 آذار وجنوحه نحو حزب الله وسورية من دون ان يخفف من هذا الخروج بقاؤه شكليا ضمن فريق الأكثرية، وهذا كان التطور الأبرز الذي شكل إحراجا وإرباكا للحريري ومجال إفادة لحزب الله وقدرة أكبر على التمسك بشروطه.