أعلن حزب الله رسميا وثيقته السياسية الأولى وحرص الأمين العام السيد حسن نصرالله على اعلان الوثيقة الشاملة شخصيا في مؤتمر صحافي تناقلته مختلف الوسائل الاعلامية اللبنانية والعربية، واهتمت له كثيرا الأوساط والدوائر الديبلوماسية التي شرعت على الفور في قراءة الوثيقة وما عكسته من مواقف وتوجهات جديدة لدى حزب الله، وفي قراءة سياسية أولية لـ «وثيقة حزب الله السياسية» يمكن الخروج بالاستنتاجات والملاحظات التالية:
1 ـ ثمة فارق كبير بين الوثيقة التأسيسية التي أذاعها حزب الله في بداياته أواسط الثمانينيات والوثيقة السياسية التي أعلنها الآن في ختام مؤتمره العام، وبما يعكس التطور الطبيعي الذي طرأ على مسيرة هذا الحزب الاستثنائي في دوره وحجمه، الذي راكم تجارب وخبرات وحقق انتصارات وانجازات وعرف خيبات ونكسات، ليخلص من كل هذه المسيرة الغنية الى صياغة «أكثر واقعية ونضجا» لاستراتيجيته السياسية وعلاقاته «اللبنانية» والعربية والاسلامية.
عندما وقف السيد ابراهيم أمين السيد في شباط 1985 ليعلن بصفته الناطق الرسمي باسم حزب الله الوثيقة التأسيسية من الضاحية الجنوبية، كان حزب الله المنتمي الى نادي المستضعفين في لبنان والعالم يعلن هويته الاسلامية وانتماءه الى الأمة الاسلامية وفي طليعتها ايران والتزامه بالولي الفقيه، ويحدد النظام الكتائبي المجرم عدوا داخليا واسرائيل واميركا وحلف الأطلسي أعداء خارجيين، وينصح اللبنانيين باعتماد النظام الاسلامي الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع ويتبرأ من «النظام الطائفي العفن».
وعندما يطل السيد حسن نصرالله بعد ربع قرن تقريبا ليعلن الوثيقة السياسية للحزب بمنطق سياسي أكثر منه ثورياً، فإنه يفعل ذلك بكثير من الثقة والقليل من الانفعال. حزب الله انتقل من نادي المستضعفين الى نادي الأقوياء واكتشف بنفسه الخصوصيات والتعقيدات اللبنانية وصار مدركا أهمية وحتمية ان يوفق بين انتمائه الديني العقائدي وانتمائه الوطني اللبناني، بين دوره المقاوم ودوره السياسي، بين عمقه الاسلامي في ايران وعمقه العربي في المحيط والجوار.
2 ـ الوثيقة السياسية لا تعلن انخراط حزب الله في النظام السياسي اللبناني أو انتسابه الى النادي السياسي اللبناني التقليدي. فهذان الانخرط والانتساب حصلا منذ سنوات عندما دخل حزب الله، بتشجيع ورعاية من دمشق وعدم ممانعة من ايران، في مجالس وحكومات ما بعد الطائف معترفا بالنظام السياسي الجديد ومؤسساته وآليات عمله. وما تغير بين الأمس واليوم ان حزب الله كان في موقع المعارض ومن داخل النظام أيام الوصاية السورية، ليصبح في موقع الشريك في الحكم بعدما أثبت خلال أربع سنوات أسندت اليه فيها مهمة ملء الفراغ السوري قدرة فائقة على ادارة الوضع اللبناني وترويضه وتكييفه مع حاجات حزب الله ومصالحه.
حزب الله، عبر وثيقته السياسية الخطية، لا يعلن انتسابه الى النظام السياسي أو انخراطه في اللعبة السياسية الداخلية، وانما يعلن احتكامه الى الدولة اللبنانية وتقربه منها أكثر واستعداده لـ «صيغة اندماجية أو تحالفية معها». فالدولة هي الاطار الذي من ضمنه يعمل ويتحرك وينمو، وبات شريكا ومساهما أساسيا فيها، ويتجه عبر تحالفاته الثابتة وسياساته البعيدة المدى الى حيازة أكثر من 50% من الأسهم اذا صح التعبير. حزب الله تجاوز مسألة الانخراط في النظام السياسي الطائفي بحجم محدود وأفق مسدود، ويبحث عن انخراط في الدولة بحجم واسع وأفق مفتوح.
3 ـ الوثيقة السياسية تشكل راهنا حاجة حيوية لحزب الله الذي لجأ اليها، وعلى مضض، بعد تعاظم الحملة السياسية الاعلامية ضده واضطراره الى رد شامل وموقف رسمي وملزم.
حزب الله وصل الى نقطة الذروة بعد حرب يونيو التي أعطته انتصارا ووسعت انتشاره وعززت مكانته وصورته في العالم العربي والاسلامي، ولكنه وجد صعوبة في ترجمة انجازه في الوضع اللبناني لاصطدامه بالصيغة الطائفية في ظل احتدام الصراع السني ـ الشيعي في المنطقة، كما انه وجد صعوبة في الاحتفاظ بهذه الصورة التي اكتسبها بعد حرب تموز ليجد نفسه محاصرا بصورة أخرى وحملة مركزة تتهمه بأنشطة وتدخلات غير مشروعة في دول عربية، وبالتورط في الأحياء والزواريب اللبنانية واستخدام سلاحه في الداخل، وهكذا فإن حزب الله الذي وافق على قواعد اللعبة الجديدة في الجنوب (القرار 1701) صار متهما بأنه تجاوز الحدود اللبنانية الى الخارج من جهة، وانكفأ من الحدود الى الداخل من جهة ثانية، ليخلص الأمر الى انخفاض منسوب المقاومة في وضعه، والى مواجهة محاولة تدمير منهجي لمكانته وتشويه لصورته واتهامات وشكوك بولاءاته وارتباطاته وأهدافه. وترافق كل ذلك مع تغييرات اجتماعية وسلوكية في البيئة الشيعية الحاضنة اضطرته أخيرا الى طلب تدخل الدولة والى اعطاء تفويض أمني داخلي لها، وان بشروط وقيود. وبالتالي فإن الوثيقة السياسية تشكل ردا غير مباشر على كل ما قيل في السنوات والأشهر الأخيرة، ردا مثلث الأضلاع على الشكوك الداخلية التي تصوب على المضمون اللبناني في مشروع حزب الله وولائه وخطابه وأدبياته، وعلى الحملة العربية التي تصوب على علاقة حزب الله مع ايران ودوره في سياستها التوسعية في المنطقة، وعلى الانتقادات الاسلامية التي تصوب على جنوح حزب الله عن دوره الطليعي على الساحة الاسلامية كقوة مقاومة وممانعة وانغماسه في مشاكل وأوضاع وحسابات لبنانية داخلية...
4 ـ الوثيقة السياسية التي تتميز بطابع «دفاعي» أكثر منه هجومياً، تضمنت مواقف متقدمة ومتطورة لحزب الله، وقدمت أول رؤية شاملة متكاملة له، ولكنها لم تقدم أجوبة نهائية وحاسمة عن كل ما له علاقة بحزب الله ومشروعه وتطلعاته، وبالاجمال، فإن الوثيقة تنال علامة كاملة في الشكل والتقديم، ولا تنال مثل هذه العلامة في المضمون الذي لا يخلو من ثغرات.
وفي مكان آخر، تشن الوثيقة حملة على الطائفية السياسية وضرورة الغائها ولكنها تصل وتحتكم الى «الديموقراطية التوافقية» وتعكس قناعة ضمنية بصعوبة الغاء الطائفية وصوابية أو واقعية اللجوء الى «التوافقية» ورغبة ضمنية بتكريس ما استجد من وقائع وأعراف في السنوات الماضية، حيث لا أكثرية تحكم ولا أقلية تعارض، والتوافق هو سيد الموقف.
وفي مكان ثالث، تستعيض الوثيقة عن عبارة «لبنان وطن نهائي» بعبارة «لبنان هو وطننا وطن أجدادنا وأحفادنا الذي قدمنا من أجله أغلى التضحيات وعز الشهداء»، مع ما تعنيه هذه العبارة ضمنا من تشديد على «ارتباط الشيعة بلبنان وولائهم له»، وما تعكسه من مرارة واستياء على ما صدر من تشكيك وانتقاد في هذا الشأن.
أما في الشق الخارجي الاقليمي والدولي الذي استحوذ على معظم الوثيقة السياسية، فإن حزب الله بقدر ما يظهر اطمئنانا الى المسار التصاعدي لمشروع المقاومة والممانعة، يظهر قلقا ازاء المسار التصاعدي للصراع والفتنة الشيعية السنية، وبقدر ما يظهر ارتياحا ازاء انكفاء وانهزام المشروع الاميركي في المنطقة، فإنه يظهر امتعاضا ازاء العجز الأوروبي، وبقدر ما يظهر التزاما في القضية العربية المركزية «القضية الفلسطينية»، فإنه يظهر ولاء بالجمهورية الاسلامية الايرانية والتزاما بها كمرجعية في الدين والمقاومة.