عندما انتهت حرب تموز 2006 التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله ولبنان الى اتفاق وقف إطلاق النار بعد نحو شهر (12 يوليو ـ 14 أغسطس)، خرج أنصار حزب الله الى الشارع للاحتفال بالانتصار وبدأ سكان الجنوب بالعودة الفورية الى أرضهم من دون انتظار ترتيبات وقف النار.
شكك كثيرون في خلفية وصوابية هذا المنحى الاحتفالي الذي خرج الى الشارع من بين الركام والدمار الهائل في الضاحية والبلدات الحدودية الجنوبية، ووضعوا الانتصار غير الواقعي في خانة رفع المعنويات واحتواء نتائج الحرب الأعنف.
ولكن حزب الله كان يعتبر الانتصار حاصلا بمجرد أن إسرائيل لم تحقق الأهداف التي أعلنتها للحرب وتصل الى حد تدمير قدرات الحزب وبناه التحتية العسكرية وإخضاعه لقواعد جديدة، تبين لاحقا أنها أنتجت وضعا هادئا لم يسبق له مثيل على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية منذ ذلك الوقت تحت سقف القرار 1701، لكنها لم تؤثر أبدا في قوة حزب الله وقدرته على إعادة بناء ترسانته العسكرية والصاروخية، لا بل توسيعها وتطويرها كما ونوعا بإضافة صواريخ أرض ـ بحر وأرض ـ جو وصواريخ دقيقة قادرة على إصابة الأهداف الحيوية في كل إسرائيل ومع هامش خطأ ضيق.
لم يتأخر الوقت حتى تبين أن خروج حزب الله من هذه الحرب «منتصرا» لم يكن مجرد ادعاء وإنما أكدته التطورات اللاحقة في إسرائيل، والتي أشارت الى أن ارتدادات زلزال حرب تموز أصابت الداخل الإسرائيلي أكثير بكثير ما أصابت الداخل اللبناني، وأن حالة من الارتباك والتخبط والسجال قد نشأت.
استقال وزير الدفاع «عمير بيرتس» وكانت استقالته مدخلا الى سقوط حكومة إيهود أولمرت.
تشكلت لجنة تحقيق برلمانية وعسكرية «لجنة فينوغراد» لتحديد المسؤوليات ومكامن الخلل والأخطاء التي قادت الى نهاية الحرب على هذا النحو وخروج إسرائيل منها من دون انتصار.
وظلت «عقدة حرب تموز» تلازم القيادة الإسرائيلية التي حصدت نتائج حرب مخيبة لم تصل الى نهاياتها والى ما هو مرسوم لها.
ومن أبرز هذه النتائج التحول الكبير الذي شهدته غزة، ومنذ أن سقطت عسكريا في يد حماس قبل 10 سنوات باقتباسها نموذج حزب الله في لبنان.
فلم يعد قطاع غزة «لقمة سائغة والحلقة الضعيفة»، وإنما صار يشكل مصدر تهديد وتحد لإسرائيل التي اتبعت سياسة حصار غير مجدية حتى الآن، ولم يعد أمامها إلا خيار الحسم العسكري وإعادة احتلال قطاع غزة الذي تتفاداه، ليس فقط لأنه مكلف وإنما أيضا لأنه يطرح سؤالا أساسيا لا جواب لإسرائيل عليه: ماذا في اليوم التالي؟! ما حصل في غزة هذا الأسبوع يقدم نموذجا مصغرا عما حصل في لبنان قبل 12 عاما.
بعد جولة قتال لم تدم إلا أياما، وافقت إسرائيل على وقف لإطلاق النار لأنها خشيت من أن يؤدي توسيع العمليات العسكرية الى سقوط صواريخ حماس على المدن الكبرى بعيدا عن «فضاء غزة»، ولأنها لم تكن جاهزة لحرب واسعة تصل الى حد الهجوم على غزة وإعادة احتلال القطاع.
نهاية الجولة على هذا النحو اعتبرها الشارع الإسرائيلي «نهاية مخزية» متهما حكومة بنيامين نتنياهو بالتخاذل أمام حماس، ولم تفرض عليها أي شروط وأثمان مقابل وقف النار والعودة إلى الوضع القائم الذي سيتيح لحماس أن تكون أقوى في الجولة المقبلة.
انطلق «الغزيون» في احتفالات النصر الذي زادته توهجا استقالة وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان بسبب الخلاف على طريقة إدارة الوضع في غزة، بينما كان الإسرائيليون، لاسيما في المستوطنات القريبة من غزة، ينظمون احتجاجات ويقطعون طرقا ويعبرون عن غضب وسخط إزاء الأداء الضعيف لرئيس الحكومة نتنياهو ورئيس الأركان الجنرال غادي أيزنكوت.
ومجمل هذا الوضع خلق دينامية سياسية وشعبية جديدة في إسرائيل، ووضعت نتنياهو أمام خيارات محددة وصعبة: - إما تعيين رئيس حزب المستوطنين (البيت اليهودي) نفتالي بنيت وزيرا للدفاع بدلا من ليبرمان، ولكن مع وضع حكومي هش وأكثرية 61 (من 120)، ومع خطر قيام هذا الوزير المتطرف بتوريط نتنياهو والحكومة في مغامرات وحروب.
- إما الذهاب الى انتخابات عامة مبكرة نتيجة ترنح الحكومة، ولكن في ظل شعبية متراجعة لنتنياهو ولأول مرة بهذا الحجم وهذه السرعة، حيث يشير أحدث استطلاع أنه لو جرت الانتخابات اليوم، فإن «الليكود» لن يحصل على أكثر من 29 مقعدا في أسوأ نتيجة يحققها منذ سنة.
- إما الذهاب الى حرب جديدة في غزة أو في اتجاه آخر وعلى طريقة الهروب الى الأمام لاستعادة الشعبية وطمس الأزمات الداخلية، بما فيها تحقيقات الفساد ونسف «صفقة القرن» من دون اصطدام مباشر مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.