.. وأخيرا ولدت الحكومة بعد مخاض عسير «مفتعل» وتأخير «غير مبرر».. في التعداد الرقمي هي الحكومة الثانية في عهد الرئيس ميشال عون، ولكنها في التصنيف السياسي هي حكومة العهد الأولى. ولطالما ردد الرئيس عون أن حكومته الأولى ستكون تلك المنبثقة عن مجلس نيابي جديد وانتخابات تجري على أساس قانون جديد أكثر عدالة وتمثيلا جهد في الوصول إليه.
الحكومة الأولى «عمليا» ستكون في الواقع «الحكومة الأخيرة» لأنها مستمرة حتى نهاية العهد، وتحديدا حتى الانتخابات في ربيع العام 2022، وقبل أشهر من انتهاء ولاية الرئيس عون في خريف العام نفسه. الحكومة مفصلة على قياس مرحلة طويلة تمتد لثلاث سنوات أو أكثر قليلا متبقية من العهد، ولذلك شهدت عملية تأليفها هذا الكم من الوقت والتجاذبات، وهذا النوع من الكباش السياسي الذي لم ينته إلى تسجيل انتصارات، وإنما انتهى عمليا إلى «لا غالب ولا مغلوب».
أولا: التوزيعات «السياسية والطائفية والمناطقية»
1 ـ التوزيع الطائفي للحكومة جاء على الشكل التالي:
٭ سُنة (6): سعد الحريري (رئيسا)، ريا الحسن (داخلية)، محمد شقير (اتصالات)، جمال الجراح (إعلام)، عادل أفيوني (دولة)، وحسن مراد (دولة).
٭ شيعة (6): علي حسن خليل (مالية)، جميل جبق (صحة)، محمد فنيش (شباب ورياضة)، حسن اللقيس (زراعة)، محمد داوود (ثقافة)، ومحمود قماطي (دولة).
٭ موارنة (6): جبران باسيل (خارجية)، يوسف فنيانوس (أشغال)، ندى بستاني (طاقة)، منصور بطيش (اقتصاد)، كميل أبو سليمان (عمل)، ومي شدياق (تنمية إدارية).
٭ أرثوذكس (4): غسان حاصباني (نائب رئيس)، الياس بوصعب (دفاع)، ألبير سرحان (عدل)، وفيوليت خيرالله (دولة).
٭ دروز (3): أكرم شهيب (تربية)، وائل أبو فاعور (صناعة)، وصالح الغريب (دولة).
٭ كاثوليك (3): فادي جريصاتي (بيئة)، سليم جريصاتي (شؤون الرئاسة)، وغسان عطالله (مهجرون).
٭ أرمن (2): أواديس كيدانيان (سياحة)، وريشار قيومجيان (شؤون اجتماعية).
2 ـ التوزيع السياسي (الحصص والأحجام) جاء على الشكل التالي:
٭ رئاسة الجمهورية (4) (سليم جريصاتي ـ سرحان ـ الغريب ـ مراد).
٭ تكتل لبنان القوي (7) (باسيل بو صعب ـ بستاني ـ بطيش ـ فادي جريصاتي ـ عطالله ـ كيدانيان).
٭ المستقبل (5) (الحريري ـ الحسن ـ شقير ـ الجراح ـ الصفدي).
٭ القوات (4) (حاصباني ـ شدياق ـ أبوسليمان ـ قيومجيان).
٭ حزب الله (3) (فنيش ـ قماطي ـ جبق).
٭ «أمل» (3) (خليل ـ داوود ـ اللقيس).
٭ الاشتراكي (2) (شهيب ـ أبو فاعور).
٭ «المردة» (1) (فنيانوس).
٭ ميقاتي (1) (أفيوني).
3 ـ التوزيع المناطقي جاء متوازنا وموزعا على كل المحافظات والمناطق، مع تسجيل هذه الملاحظات: وزيران من البقاع الغربي (الجراح ومراد)، ووزيران من قضاء عاليه (شهيب والغريب)، ووزيران من كسروان (بطيش وبستاني)، ووزيران من زحلة ومن العائلة نفسها (جريصاتي)، ووزيران من الكورة (الحسن وسرحان)، ووزيران من المتن (بوصعب وأبوسليمان)، ووزيران من بعلبك (اللقيس وجبق).
أما الأقضية التي لم تتمثل فهي: عكار بشري جبيل بعبدا صيدا النبطية.
ثانيا: في التقييم السياسي العام
1 ـ الحكومة الجديدة نسخة منقحة عن السابقة من حيث تركيبتها السياسية وتوازناتها العامة التي لم تدخل عليها تغييرات تذكر، خصوصا وأن الوزارات السيادية والأساسية بقيت في يد القوى السياسية ذاتها (الداخلية المالية الخارجية الدفاع العدل الاتصالات الطاقة..).
ولذلك فإن تأخر الحكومة لتسعة أشهر لم يكن مبررا ومنطقيا، طالما أن الوزارات الكبرى كانت محيدة ومحسومة من البداية، وهذا التأخير أهدر أشهرا من عمر العهد وهو بعد في انطلاقته، وساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية وتسريع حال النزف فيها، وألحق الضرر بصورة لبنان وسمعته الدولية، الى درجة أن المجتمع الدولي باتت لديه شكوك في أهلية لبنان وجهوزيته وفي أنه جدير بتلقي الدعم والمساعدة.
2 ـ حكومة ما بعد الانتخابات النيابية شهدت عملية تأليفها ارتباكا وتجاذبا، لأن هذه الانتخابات بدلت ولو قليلا في الخارطة النيابية وفي المشهد السياسي، ما جعل أن معركة الحكومة تمحورت حول ثلاث مسائل أساسية أنتجت عقدا واستوجبت وقتا، وهي:
٭ مسألة التمثيل المسيحي في ضوء التقدم الملحوظ في حجم القوات اللبنانية المستفيدة الأولى من القانون الانتخابي الجديد.
٭ مسألة التمثيل السُني في ضوء التراجع في حجم تيار المستقبل الذي واجه تحديات وخروقات في بيروت والبقاع الغربي والضنية لمصلحة حلفاء حزب الله.
٭ مسألة التمثيل الدرزي في ضوء الاختراق الذي حصل في عاليه لمصلحة طلال إرسلان الذي قاد لائحة التيار الوطني الحر، وفي الشوف لمصلحة وئام وهاب الذي حل ثانيا متقدما على مروان حمادة وإن لم يفز.
وبدا من لحظة فتح الملف الحكومي أن هناك توجها وتحت عنوان ترجمة نتائج الانتخابات الى عدم تمكين الحريري من احتكار التمثيل السني، وعدم تمكين جنبلاط من احتكار التمثيل الدرزي. أما على الساحة المسيحية، فإن نتائج الانتخابات لم تترجم إلا عبر إقصاء حزب الكتائب، في حين أن تيار «المردة» دخل الوزارة مع حقيبة وازنة، وأن حزب القوات اللبنانية دخل بحجم وزاري غير متناسب مع حجمه الشعبي والنيابي الجديد.
3 ـ أفضل ما في الحكومة الجديدة وما يميزها عن سابقاتها، هو تعزيز حضور ودور المرأة فيها، فما لم يتحقق في الانتخابات النيابية تحقق في هذه الحكومة التي ضمت، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان أربع وزيرات وفي وزارات أساسية.. ويمكن القول ان ريا الحسن هي مفاجأة الحكومة، إذ لم يكن دخولها الى الحكومة منتظرا أو متوقعا أو متداولا به، ولم يكن توليها لوزارة الداخلية تحديدا أمرا عاديا وإنما كان قرارا جريئا من الرئيس سعد الحريري وخطوة نوعية متقدمة لقيت أصداء إيجابية وارتياحا في أوساط الرأي العام اللبناني، كما في الأوساط الديبلوماسية.
ثالثا: في حسابات الربح والخسارة
ينظر الى حزب الله على أنه الرابح الأول في حكومة لا يقاس وجوده فيها بحجمه الوزاري العادي وغير المتناسب مع حجمه الواقعي، وإنما يقاس بمدى قدرته على التحكم بمجريات التأليف ومعادلة الحكومة وقرارها.. وبالنتيجة، كان لحزب الله ما أراده وحدده منذ البداية: وزارة الصحة له، وزارة المالية تبقى مع بري، وزارة الأشغال لفرنجية، تحجيم جنبلاط وجعجع، والأهم تمثيل سُنة 8 آذار، وتكريس واقع سياسي جديد داخل الطائفة السنية.
في المقابل، يُنظر الى التيار الوطني الحر على أنه لم يخرج منتصرا من هذه المعركة، لمجرد أنه لم يحقق هدفه بالوصول الى الثلث المعطل «الضامن»، وخصوم التيار يصنفونه خاسرا لهذا السبب لأنه خاض معركة على امتداد أشهر لم يصل فيها الى النتيجة المتوخاة، فكانت النتيجة أن الحكومة رست فعليا على «ثلاث عشرات»، وأن أي فريق سياسي لم يحصل لوحده على ثلث معطل، وأن وزير «اللقاء التشاوري» وجوده ملتبس ويطرح إشكالية، وهو موزع على ثلاثة أجزاء بين «اللقاء والحزب والرئيس».. وهو رسميا من حصة الرئيس وعمليا من حصة حزب الله.
القوات اللبنانية، التي خرجت منتصرة من معركة الانتخابات، خرجت خاسرة من معركة الحكومة لمجرد أنها لم تتمكن من ترجمة نتائج الانتخابات في حصة وزارية وازنة، وحازت على حقائب عادية، وحرمت من الحقائب السيادية والأساسية على السواء. وحصل ذلك بسبب محاربة حزب الله والوزير جبران باسيل لها، وأيضا بسبب عدم وقوف الرئيس سعد الحريري حتى النهاية معها، وانسحاب جنبلاط المفاجئ من المعركة لإبرام تسوية جانبية،. لكن القوات التي أظهرت مرونة وواقعية في معركة الحكومة، نجحت وحققت نقاطا في مجالين: الأول في اختيارها لوزرائها اختيارا مبكرا ومميزا.. وفي أن كان لها الكلمة الأخيرة في ولادة الحكومة التي لم تكن لتولد لولا موافقة القوات على التنازل ومبادلة الثقافة بالتنمية الإدارية، فبدت في صورة وموقع «المنقذ» ومن يقدم مصلحة البلد على المصلحة الخاصة، وكانت أن الأضواء الإعلامية في ساعات ما قبل وما بعد ولادة الحكومة توزعت بين معراب وبعبدا وبيت الوسط.
الرئيس سعد الحريري خسارته معنوية في أنه لم يكن ممسكا بزمام التأليف والمبادرة كما يجب، وفي أنه لم يتمكن من الحؤول دون تكريس واقع سياسي سني في الحكومة عبر إبعاد خصومه المباشرين، لكنه نجح في التعويض سُنيا عبر علاقة تحالفية جديدة مع الرئيس نجيب ميقاتي، وفي التعويض «حكوميا ورقميا» عبر مبادلة مع رئيس الجمهورية أعطته مقعدا مسيحيا بدلا من المقعد الذي اضطر الى اقتطاعه من الحصة السنية، وكان أن حلت العقدة السنية على حساب رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى.
أما، وفي حين بقي الرئيس نبيه بري في وضع مستقر، فإن جنبلاط اضطر أيضا الى القبول بواقع درزي جديد يزاحمه في الحكومة ويفرض عليه تكريس واقع ثنائي. وليس مفارقة أن يكون الوزير الجديد إبن شقيق شيخ العقل الثاني ناصر الدين الغريب، وأن يتولى وزارة شؤون النازحين السوريين.
رابعا: ما بعد الحكومة والخطوات التالية
على المستوى المباشر، تتجه الأنظار الى البيان الوزاري الذي لن يكون مشكلة وسيكون مقتضبا ومستنسخا عن البيان السابق في بندي «المقاومة» والعلاقات مع العالم العربي، ومن المتوقع أن تنهي الحكومة بيانها وأن تنال الثقة قبل منتصف الشهر الجاري.
على المستوى السياسي، هناك حذر وترقب لجهة:
٭ أن تأليف الحكومة مهم، ولكن الأهم أن تكون منسجمة في أدائها وسياساتها ومنتجة في خططها وأعمالها، وأن لا تستمر الخلافات التي ظهرت في معركة التأليف ولا تنتقل الى داخلها فتنشأ محاور وتحالفات وتصفية حسابات.
٭ أن موضوع سورية، تفعيل العلاقة معها ومعالجة أزمة النازحين، هو الموضوع الأبرز الذي يتصدر عناوين المرحلة المقبلة ويشكل مصدر تهديد لاستقرار الحكومة وتماسكها، خصوصا إذا ظل الموقف العربي على حاله من الغموض والتردد والترقب والحذر حيال سورية، ولم يبت في المسألة قبل قمة تونس العربية.
٭ أن الحكومة تقوم على توازنات سياسية، ولكن هناك اختلاف في النظرة الى المعادلة الجديدة:
ـ هناك من يعتبرها حكومة حزب الله ويصنف الحزب وحلفاءه زائد التيار الوطني الحر في خانة واحدة، ليحوز هذا المحور مجتمعا على الثلثين (20 وزيرا)، مع احتساب وليد جنبلاط أيضا في هذه الخانة.
ـ هناك من يعتبرها حكومة تحالف عون الحريري، وحيث لهذا المحور أكثرية النصف زائد واحد في هذه الحكومة، وبالتالي يمكن لهذا المحور أن يواجه ما واجهه في الحكومة السابقة من محور ثلاثي ضم بري وجنبلاط وجعجع، أو يمكن لهذا المحور أن يجد ملاقاة من جنبلاط وجعجع.
ـ هناك من يعتبر أنها حكومة الثلاث عشرات: الرئيس والتيار + الحريري وجعجع + حزب الله وحلفائه (مع جنبلاط قسرا). وبالتالي، فإن المواجهة الفعلية هي بين حزب لله وحلفائه وبين الحريري وحلفائه. وأما الرئيس عون مع تياره، فإنه يلعب دور عامل التوازن والجسر والقوة المرجحة. صحيح أن الرئيس عون حليف استراتيجي لحزب الله، ولكنه على مستوى الدولة والسلطة هو حليف أيضا للرئيس الحريري، وقد عبر عن رغبة بالشراكة مع رئيس حكومة قوي، في حين أن ملابسات التأليف تركت ندوبا على علاقته مع حزب الله، وأن التأخير في التأليف كان ناجما بشكل أساسي عن وجود خلاف تكتيكي بينهما.