عندما انتخب لبنان عضوا في مجلس الأمن ممثلا المجموعة العربية، ابتهج كثيرون بهذا «الانجاز الديبلوماسي» الذي يعزز دور لبنان وحضوره الدولي، فيما عبر قليلون عن قلقهم ازاء اختبارات وتجارب سيواجهها لبنان في تعامله مع استحقاقات وملفات اقليمية دقيقة ومعقدة وسيكون معنيا بتطوراتها وانعكاساتها، وأهمها الملف النووي الايراني. وفي المحصلة العامة، سيكون على حكومة الوحدة الوطنية «ابتداع» مخرج يوفق بين مصالح لبنان الخارجية وأوضاعها الداخلية بما فيها من توازنات سياسية وطائفية ومن ميزان قوى دقيق في الحكومة الائتلافية الهشة.
وبالفعل، وجد لبنان نفسه أمام «القرار الصعب» وانتهى به الأمر الى «اللاقرار»، وكان موقف «اللا موقف» هو المخرج الذي تم ترتيبه بعناية ودقة على الطريقة اللبنانية، لكن الحكومة التي خرجت من «قطوع الملف الايراني» بأقل أضرار ممكنة لم تسلم من تصدعات وندوب وانكشف أمرها عن انقسام عميق في المسائل الأساسية.
حكومة الوحدة الوطنية وفي أول خروج لها على قاعدة التوافق، وفي أول تصويت سياسي تشهده، توزعت مناصفة بين محورين وبالتساوي (14 ـ 14):
أ ـ محور أول «معارض» طالب باتخاذ موقف رافض للعقوبات على ايران وبالتصويت ضد القرار الدولي بفرض عقوبات جديدة، وهذا المحور الذي قاده الرئيس نبيه بري أعطى لموقفه التبريرات التالية:
ـ لا يجوز ان يكون سقف الموقف اللبناني أقل من سقف الموقف التركي.
ـ ايران دولة صديقة للبنان وقدمت له الكثير في مجال دعم المقاومة واعادة الاعمار.
ب ـ محور ثان «مؤيد» لموقف الامتناع عن التصويت وغير محبذ لخيار التصويت ضد العقوبات، وهذا المحور الذي قاده الرئيس سعد الحريري أعطى التبريرات التالية:
ـ لبنان يمثل المجموعة العربية في مجلس الأمن وتصويته يجب ان يعكس الموقف العربي المنقسم بين مؤيد للقرار الدولي ومعارض له.
ـ موقف لبنان بالحياد والامتناع عن التصويت يلقى تفهما دوليا وعربيا نظرا لظروفه الداخلية، حتى في تركيا نفسها.
ـ لا مصلحة للبنان في الدخول في مواجهة مع المجموعة الدولية لتي قدمت مشروع العقوبات، ولا مصلحة له في الدخول في صراعات اقليمية ودولية أكبر منه ومن طاقته على التحمل.
ما لفت وبرز في عملية التصويت داخل مجلس الوزراء ثلاثة أمور:
1 ـ موقف الرئيس ميشال سليمان الذي صوتت «كتلته الوزارية» لمصلحة الموقف الداعي الى رفض العقوبات والتصويت ضدها في مجلس الأمن، والرئيس سليمان كان منسجما مع موقف سياسي واضح أعلنه في هذا الاتجاه قبل أسبوع، وبالتالي لم يكن مفاجئا، لكن عملية التصويت شكلت مفاجأة في اطارها وظروفها ومنحاها بحيث أدت الى فرز سياسي على طاولة مجلس الوزراء بدا فيه الرئيس ووزراؤه في صف «المعارضة»، وفي أول خروج فعلي و«رسمي» للرئيس سليمان من موقعه التوافقي «الوسطي»، وان الرئيس التوافقي لا يعني رئيس «اللاموقف»، كما ان هذا الخروج يثير حفيظة أطراف في 14 آذار ويعزز «نقزة» لديها ازاء مواقف الرئيس سليمان في الفترة الأخيرة عكست انحيازا وخروجا عن الدور التوافقي الذي انتخب على أساسه، لكن في المقابل سيلقى موقف سليمان تقدير وثناء حزب الله وحلفائه وستصله اشارات دعم من دمشق وطهران.
2 ـ موقف النائب وليد جنبلاط الذي ـ وفي أول اختبار جدي وفعلي يواجهه منذ تحوله السياسي الشهير ـ «صوت» مع فريق 14 آذار في أول خروج له من موقع «الوسطية» كما لو انه مازال جزءا من هذا الفريق، حتى ولو أراد تظهير تصويته لمصلحة الحريري وتأكيد الوقوف الى جانبه في الاستحقاقات والأوقات الصعبة والمفصلية. فإذا كان جنبلاط مصرا على قطع صلاته بقوى 14 آذار وانه أصبح خارجها، فإنه حريص على عدم القطع مع الرئيس سعد الحريري، لا بل يبدي ميلا واضحا الى احياء وتفعيل علاقته التحالفية معه. وهذا السلوك السياسي من جانب جنبلاط يقابل من حزب الله بـ «ريبة وخيبة»، لأن جنبلاط «استقل وتمايز» عند أول منعطف، خصوصا ان تصويت وزراء جنبلاط في مجلس الوزراء يأتي بعد مواقف أخيرة له انتقد فيها الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد داعيا إياه للاقتداء برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وبسياسته وتصريحاته الحكيمة والمتزنة حيال اسرائيل، كما ان مجمل هذه المواقف تأتي بعد زيارة جنبلاط الأخيرة الى المملكة العربية السعودية ليؤكد بعدها عمق علاقته بالملك عبدالله بن عبدالعزيز وانه يقف في «المحور السوري ـ السعودي» وليس في «المحور السوري ـ الايراني».
3 ـ غياب الوزير محمد الصفدي أحد وزراء 14 آذار عن جلسة التصويت، وأيضا غياب الوزير عدنان القصار أحد «وزراء الرئيس»، ولم يعرف بعد ما اذا كان هذا الغياب المزدوج يعكس تموضعا سياسيا جديدا لدى الصفدي وفي اتجاه الابتعاد التدريجي عن 14 آذار، ونهجا وزاريا جديدا لدى القصار وفي اتجاه يوازن بين رئيسي الجمهورية والحكومة، أم ان هذا الغياب مبرمج وتم بناء على طلب رئيسي الجمهورية والحكومة في اطار عملية اخراج دقيق ومتقن لمعادلة التصويت والتعادل السلبي.
انتهت عملية التصويت لتبدأ التداعيات السياسية بالظهور تباعا، وأولها ما يتعلق باعتراض فريق المعارضة على كيفية تحول «اللا موقف» في مجلس الوزراء الى «موقف» في مجلس الأمن، وكيف تم تظهير موقف الحكومة على انه «امتناع عن التصويت»، في حين جرى اهمال واسقاط النصف الآخر لهذا الموقف. اذا كانت الحكومة اجتازت قطوعا صعبا وخرجت من هذه التجربة بأقل أضرار ممكنة، فإنها خرجت أيضا مثخنة بالجراح حيث سيكون على رئيسها بذل جهود كبيرة لترميم ما تصدع وللحؤول دون انعكاسات وتأثيرات سلبية على وحدة الحكومة وأدائها وانتاجيتها، خصوصا انها تعاني أساسا حال مراوحة وتعثر ولم تبرهن حتى اليوم على قدرة في ممارسة الحكم واتخاذ القرارات الكبيرة منها والصغيرة. فإذا كانت الحكومة تحتاج منذ أسابيع الى عملية «تفعيل» والى قوة دفع جديدة، فإنها بعد الانقسام الحاصل باتت تحتاج الى عملية ترميم يمكن ان تتطور وتتسع الى عملية تعديل وتغيير، فالحكومة التي ظهرت حكومة انقسام أكثر مما هي حكومة وحدة، والتي تستند الى توازن دقيق وهش، ليست حكومة في مستوى المرحلة وتحدياتها.