الصراع على سورية يعتبر صراعا مصيريا بالنسبة لروسيا وفرصة ذهبية لعودتها للعب دورها كقوة عظمى في حلبة الصراع الدولي وفرض إيقاعها السياسي على العالم. ولكن موسكو التي نجحت حتى الساعة في عرقلة الحلول في سورية بفعل ورقة الفيتو التي تملكها في مجلس الأمن، تبدو وكأنها وصلت الى نهاية الطريق في مسار معاكسة الغرب واستدراج العروض. فروسيا لا تملك مفاتيح الحل، ومواقفها المتصلبة لن تؤدي إلا الى مزيد من تأزيم العلاقات بين واشنطن وموسكو والى تصعيد الخطاب السياسي ضدها باعتبارها مصدر التهديد الاستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة، ما يؤدي الى إحياء مناخات الحرب الباردة ومن ترددات مرتقبة يمكن أن تطيح آخر الأرصدة التي تملكها موسكو، خصوصا أن روسيا ومنذ بداية الأزمة السورية لم تكن تمارس لعبتها من أجل سورية أو الشرق الأوسط بقدر ما كانت تسعى إلى ضمان مكانتها في النظام العالمي المعاصر، وذلك من خلال إثبات أن أي أزمة دولية خطيرة لا يمكن إيجاد حل لها من دون أخذ رأيها في الاعتبار، وعبر الحيلولة دون تكرار السابقة الليبية في أي أزمة إقليمية مقبلة.
وفي الواقع هناك مؤشرات أولية الى تغييرات محتملة في الموقف الروسي، لاسيما في ضوء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى تركيا، وبعد إبرام العراق وروسيا صفقة أسلحة قدرت بنحو 254 مليار دولار، واتفاق موسكو مع دول مجلس التعاون الخليجي على عقد الدورة الثانية للحوار الاستراتيجي بين الطرفين هذا الشهر، ورهان روسيا على سياسة التوجه شرقا التي ينتهجها الرئيس المصري محمد مرسي، على نحو دفع بالإعلان عن زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مطلع تشرين الثاني 2012 للقاهرة من أجل تعزيز التعاون المشترك. هذا إضافة إلى إعلان موسكو عن مؤتمر دولي في نهاية 2012، للبحث في سبل إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، إضافة الى خطوات عملية أهمها فتح أبواب موسكو لاستقبال مختلف فصائل المعارضة السورية واستقبال المبعوث العربي والدولي الأخضر الإبراهيمي من أجل إجراء مشاورات حول الوضع في سورية واحتمالاته وسبل معالجته، فضلا عن توجه موسكو نحو إعطاء بيان جنيف حول سورية قيمة إجرائية وتطبيقية، من خلال جعله أشبه بقرار منفصل لمجلس الأمن الدولي، يكون ملزما لكل الأطراف المعنية من أجل وقف إطلاق النار في سورية على طريق معالجة الأزمة.
إن الأسباب التي تقف وراء أي تحول في موقف روسيا باتجاه دعم الحل السياسي وتشجيع النظام والمعارضة على الانخراط فيه عبر حوار مباشر، هي أسباب متعددة وأبرزها:
٭ قرب اجتياز الولايات المتحدة بوابة الانتخابات الرئاسية، بما يعنيه من تحرر واشنطن وقدرتها على اتخاذ قرار أكثر جرأة في الموضوع السوري.
٭ تحول الأزمة السورية الى أزمة إقليمية ومصدر تهديد لأمن واستقرار المنطقة، مع معاناة دول الجوار السوري وسيرها نحو مشاكل جديدة ناتجة عن تداعيات الوضع السوري، وأبرزها ضغوطات دخول مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى هذه البلدان، وقد قارب عددهم نصف مليون نسمة بينهم أكثر من ثلاثمائة ألف لاجئ مسجل. فضلا عن تدهور الأوضاع الأمنية على حدود سورية مع دول الجوار. وكان التطور الأهم في هذا الجانب، ما حدث على الحدود السورية ـ التركية من قصف متبادل، الأمر الذي هدد ولايزال باندلاع حرب سورية ـ تركية إذا تكرر القصف السوري للأراضي التركية.
٭ النقاش الساخن الذي يدور في أوساط الديبلوماسيين وخبراء السياسة الروس حول موازين الربح والخسارة التي حصدتها موسكو بسبب الأزمة السورية، ولم يعد كثيرون داخل مطبخ صنع القرار يخفون استياءهم بسبب الخطاب السياسي الذي تمسكت به موسكو خلال الأزمة، ويرددون أن الديبلوماسية الروسية ارتكبت أخطاء ستسفر عن إضعاف الموقف الروسي في المنطقة لسنوات طويلة مقبلة إذا لم يتم تدارك الموقف قبل فوات الأوان.
٭ تنامي الحضور التركي في الجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا أو في منطقة الشرق الأوسط، وهو الدور الذي تعتبر أنه يستهدف إحياء ميراث «الإمبراطورية العثمانية» من خلال الهيمنة السياسية والاقتصادية.
٭ تخشى روسيا إن سقط النظام السوري من تفتت سورية والمنطقة إلى كيانات مذهبية متنافرة. وأكثر ما تخشاه أن يؤثر صعود الإسلاميين في بلدان الربيع العربي على الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي سابقا في منطقة القوقاز الروسي وعلى المسلمين الروس عموما الذين تقدر أعدادهم اليوم بأكثر من 20 مليون مسلم. ويسود اعتقاد لدى الكرملين بأن الصعود الاسلامي في البلدان العربية قد ينعش النزعة الانفصالية في القوقاز الروسي من جديد كما حصل في الشيشان، خصوصا أن هناك مجموعات إرهابية توجهت من الشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى، وهذه سيكون لها تأثير خطير إذا انزلقت سورية إلى حكم سياسي ديني أو إلى فوضى عارمة.
٭ تعتبر روسيا أنه إذا سقط نظام الرئيس الأسد، ورقة القوة الخارجية الإقليمية المهمة لإيران، ستكون إيران هي التالية بعد سقوط سورية، وهذا يفقد روسيا حليفا قويا ويؤثر على العلاقات والتفاهمات الروسية الإيرانية نظرا لدور إيران الإقليمي في الخليج العربي وبحر قزوين وسط آسيا.
٭ وجود ما يقارب 45 ألف مواطن روسي في سورية، وهؤلاء يمثلون البعد الثقافي الروسي في الشرق الأوسط، ولن تسمح موسكو بأن يحدث لهم ما حدث مع المواطنين الروس في ليبيا خلال تفجر الاحتجاجات الليبية.
يضاف الى ذلك العوامل السورية الضاغطة على موسكو وهي ليست أقل وزنا وتأثيرا في هذا الاتجاه، حيث لا يمكن للموقف الروسي أن يستمر في معاندته الضغوطات عليه من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية وكذلك العربية ودول أخرى في مجلس الأمن، من أجل الاستجابة لموقف قوي وضاغط على السلطات السورية للانخراط في حل سياسي للوضع السوري، خاصة أن نهج المعالجة العسكرية الأمنية الذي تتابعه السلطات لم يؤد إلى نتيجة. ويتزامن مع التدهور الأمني انسداد في الأفق السياسي للأزمة في الداخل، حيث لا فرصة لحراك أو لحوار في المجتمع وكتله المختلفة أو داخل النظام، بل إن ما يجري نقل الصراع إلى أوساط وحلقات كانت اعتبرت هادئة في الفترة الماضية وتمثل قوة صلبة في تركيبة النظام الحاكم، ومنها مناطق في محافظتي طرطوس واللاذقية، حتى ان الأكراد دخلوا المعركة الى جانب النظام السوري.
التحركات الروسية هذه حيال مسرح عمليات المنطقة تثبت في مجملها أن روسيا باتت تدرك أن أحداث المنطقة قد تدفعها إلى مواجهة خطر فقدان بقايا دورها ونفوذها في الشرق الأوسط، أو قد تفتح لها نوافذ جديدة للعبور منها لبناء شبكة من التحالفات الجديدة، وهي الفرصة التاريخية التي تحاول استغلالها، مدعومة بطموح بوتين في أن تغدو روسيا لاعبا مركزيا في المنطقة يشهد تراجعا نسبيا للدورين الأميركي والأوروبي وتتبدل فيه في موازين القوى الإقليمية وتتغير أنماط التحالفات الإقليمية والدولية على نحو دراماتيكي.
وتجاهد روسيا من أجل الحفاظ على مصالحها، أكان ذلك على الصعيد السياسي أم الاقتصادي أم الأمني، ويأتي تحركها المكثف في دائرة الشرق الأوسط انطلاقا من أن سقوط نظام البعث في سورية من شأنه أن يدفع روسيا إلى خارج دائرة عمليات المنطقة، لاسيما في ظل الحصار الاقتصادي الذي بدأت آثاره تتداعى على شريكه الإيراني، على نحو بات يدفع روسيا نفسها إلى محاولة الاضطلاع بدور «الوسيط» بين النظام والمعارضة، سعيا من جهة إلى توثيق العلاقات مع قوى المعارضة السورية وتياراتها، لضمان موطئ قدم على البحر المتوسط، سواء بقي النظام أو رحل. ومن جانب ثان، انطلاقا من الرغبة في مزاحمة القوى الدولية والإقليمية على ساحة الشرق الأوسط، من خلال الاستثمار في العلاقات مع القوى الإسلامية الصاعدة إلى الحكم في دول الربيع العربي. إن النتيجة التي سيؤول إليها الموقف الروسي من الوضع السوري مرهونة بالنتائج التي ستتمخض عنها الحركة الديبلوماسية الروسية من جهة، والخطوات الإجرائية التي ستتابعها في الأسابيع القليلة القادمة، والتفاعلات الإقليمية والدولية والداخلية السورية في تأثيرها على موقف موسكو، وكلما كانت الضغوط أكبر، فإن التغييرات في الموقف الروسي ستكون أكبر وأكثر جذرية. وبالنسبة لروسيا الحل الواقعي الأنسب للأزمة المتزايدة خطورة يتطلب أولا وقبل كل شيء الاتفاق بين روسيا وأميركا وفرنسا والدول الأخرى المؤثرة على ضرورة وقف القتال والعمليات العسكرية فورا والتحرك جديا معا لتحقيق ذلك، ثم دفع كل الأطراف السوريين الى طاولة الحوار والتفاوض خارج الأراضي السورية وفي رعاية دولية ـ إقليمية مناسبة من أجل التفاهم على تركيبة النظام الجديد وصيغة تقاسم السلطة بين مكونات المجتمع السوري ومسألة رحيل الأسد والمرتبطين به وتحديد موعد لإجراء انتخابات نيابية ورئاسية تعددية حرة وشفافة في أقرب وقت ممكن يشرف عليها مراقبون دوليون وتكرس الانتقال الى المرحلة الجديدة.
لقد باتت روسيا أكثر قناعة بأن سورية تحولت عبئا ومأزقا، والمطلوب من روسيا هو الخروج من المأزق بأقل الأثمان. لذلك هي مستمرة في دعم النظام السوري لإطالة عمره وبالتالي إطالة عمر الأزمة نفسها لكي تأخذ هذه القضية عمقا إقليميا، وقد يكون في النهاية صراعا إقليميا طويل الأمد، في انتظار إجراء «مساومة كبرى» مع الغرب تحافظ من خلالها على مصالحها الحالية والمحتملة في أي ترتيبات جديدة في سورية ومنطقة الشرق الأوسط في إطار ما تدعو إليه (مع الصين) من ضرورة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب.