تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من التحولات غير المسبوقة، حيث العلاقات تتبدل، والتحالفات تتغير، ونظم تسقط، وأخرى تهمش، وأعداء الأمس يصبحون بين عشية وضحاها أصدقاء اليوم. فلا ضابط لهذه التحولات، ولا قاسم مشترك بينها سوى أنها جميعا تحدث في الشرق الأوسط الذي يعاني حالة سيولة مفرطة، وانفلات متضخم، ما يدفع الى التساؤل: الشرق الأوسط.. إلى أين؟
ما يحدث في الشرق الأوسط منذ الأشهر الثلاثة الماضية، يعد أكثر تفاعلا وتشابكا وتداخلا وغموضا على جميع المستويات. ويبدو أن المنطقة أمام موجة جديدة من التحول منبثقة جملة التطورات الإقليمية التي تفجرت أخيرا، والتي كان في مقدمتها الثورة الشعبية المصرية في 30 يونيو 2013 على حكم الإخوان المسلمين، وما تبعها من تفاعلات ومواقف متباينة، وكذلك تطورات الأزمة السورية التي دخلت منعطفا جديدا، أدى إلى تسارع وتيرتها استخدام الأسلحة الكيميائية في غوطة دمشق الشرقية، الأمر الذي أسهم في زيادة حدة التفاعلات الإقليمية والدولية.
ولا شك في أن حصيلة هذين التطورين في الدولتين الكبيرتين، وما تبعهما من مواقف وسياسات، يساوي حركة غير مسبوقة من التحولات والتغيرات في مواقف الدول وسياساتها، وكذلك في شبكة التحالفات القائمة على جميع المحاور، ومنها ما هو إقليمي ـ إقليمي، وإقليمي ـ دولي، ودولي ـ دولي.
1- على مستوى التفاعلات الإقليمية ـ الإقليمية: ألقى الحدث المصري في 30 يونيو بظلاله على مستويات عدة:
ـ أسهم في تبدل العلاقات المصرية ـ التركية من التعاون والتحالف إلى التنافس والصراع، حيث عارضت تركيا بشدة ما حدث في مصر ووصفته بـ «الانقلاب العسكري»، وسعت إلى تأليب الدول الغربية ضد الحكم الانتقالي الجديد في مصر.. أنقرة كانت راهنت على حكم الرئيس السابق واستثمرت فيه سياسيا واقتصاديا وإعلاميا، فقد كانت ترنو لأن تكون الدولة النموذج، أو الدولة القائدة للمنطقة، انطلاقا من وجود نظم حكم في تركيا ومصر وتونس وغزة وسورية (في حالة نجاح الثورة) تنتمي لمرجعية إخوانية، على أن تكون تركيا هي القطب أو الدولة المركزية التي تقود هذه المنظومة. لكن ما حدث في مصر بدد طموحات الأتراك، بل يكاد يضر بمستقبل هذه المنظومة في المنطقة، لأنه في اعتقاد الأتراك أن أي نظام مصري آخر قد يتعاون معهم لكنه لن يحقق لهم هذه الميزة ولن يسمح لهم بقيادة المنطقة منفردين.
ـ تجدد التحالف المصري ـ الخليجي بعد الموقف الخليجي الداعم بقوة للنظام الجديد في القاهرة، سواء كان ذلك ماديا أو ديبلوماسيا، الأمر الذي فاجأ وأربك القوى الكبرى، وجعل كثيرا من هذه الدول تراجع مواقفها تحت تأثير الإقناع الخليجي (السعودية) وأيضا فرنسا. وهذا التحالف المتجدد يوجه رسالة مفادها أن «العرب قادمون «للتأثير في مجرى التفاعلات الإقليمية بعد طول غياب».ـ عودة التقارب التركي ـ الإيراني، حيث ان العلاقة بين الدولتين كانت قد وصلت إلى قدر من التحالف والتعاون في تقاسم مناطق النفوذ في العالم العربي في مرحلة ما قبل الثورات، لكن سرعان ما اختلفت إيران وتركيا حول الأزمة السورية بين مؤيد للنظام (إيران) ومؤيد للثورة (تركيا). لكن يبدو أن الإيرانيين يسعون للتعاون مع الأتراك مرة أخرى، بدليل زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى تركيا عارضا التعاون في ملفات عدة، منها الإسلام السياسي والأكراد، إضافة الى ملف النفط، إذ تنوي تركيا التزود بكميات كبيرة من النفط الإيراني العام المقبل.
2- على مستوى التفاعلات الإقليمية ـ الدولية:
ـ شهدت التفاعلات بين مصر والولايات المتحدة مزيدا من الشد والجذب، في ظل موقف الولايات المتحدة المتأرجح بين دعم النظام السابق والتعاون مع النظام الحالي في مصر، حيث يبدو أن الولايات المتحدة قد راهنت على تحقيق استراتيجيتها في المنطقة باستمرار الإخوان في حكم مصر. ثم جاء الحدث المصري الضخم ليقلب الأمور رأسا على عقب، وليفسد على الولايات المتحدة استراتيجيتها في المنطقة. لكن الولايات المتحدة دولة ذات مصالح استراتيجية متبادلة مع مصر، ومن الحكمة ـ من وجهة نظر واشنطن ـ الحفاظ على هذه المصالح التي يمكن أن تتعرض للضرر في حالة وجود نظام معاد لها في القاهرة، أو في حالة سقوط مصر في براثن الفوضى، كما أن القاهرة قادرة على تحديد مصالحها وحمايتها، حتى وإن تعارضت مع سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، وأنها قادرة على أن تسير هذه العلاقات مستقبلا في إطار من التوازن والتقدير المتبادل للمصالح المشتركة.
ـ تنام في العلاقات المصرية ـ الروسية بعد موقف روسيا المتوازن تجاه مصر، بعد عزل الرئيس السابق، حيث أيدت تطلعات الشعب المصري وأعلنت استعدادها لتقديم ما تحتاج إليه مصر من مساعدات، مع التأكيد على أن المصريين قادرون على تحديد مستقبلهم بأنفسهم من دون تدخل أجنبي، وأن الروس على استعداد لتقديم جميع أوجه الدعم لمصر لمواجهة الأخطار التي تواجهها. وهذا الموقف قد أعاد الدفء إلى العلاقات المصرية ـ الروسية، وأسهم في تفعيل محور القاهرة ـ موسكو من جديد، ما يدفع الى التساؤل: هل تتجه مصر شرقا؟
ـ حدوث تقارب أميركي ـ إيراني، لقد أعلن أوباما أن بلاده مستعدة لخوض حوار ديبلوماسي مع إيران حول برنامجها النووي، وتجاوز عقود من المقاطعة والعداء، هذا فضلا عن الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الأميركي ونظيره الإيراني على خلفية مشاركة الأخير في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو الأمر الذي لم يحدث على مستوى العلاقات بين البلدين منذ الثورة الإسلامية في العام 1979 وهو ما عد تطورا إيجابيا على صعيد تنامي العلاقات بين الجانبين، مما أحدث إرباكا وحذرا وقلقا في الخليج العربي من هذا التقارب وتأثيره في مصالح هذه الدول وعلاقاتها التحالفية مع الولايات المتحدة.
ـ التوجه التركي صوب الصين، وحيث منحت تركيا الصين عقدا بقيمة 4 مليارات دولار لشراء سلاح لتدعيم دفاعها الجوي، وتعد هذه الصفقة بمنزلة ضربة قوية لحلفاء تركيا داخل حلف الناتو، وتحديدا الولايات المتحدة وفرنسا. ويبدو أن الخلافات بين تركيا وحلفائها داخل الناتو كانت السبب في اتجاه تركيا لإتمام هذه الصفقة. فتراجع الولايات المتحدة عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، وتجاهل أوباما لتركيا أثناء المفاوضات مع روسيا حول الأزمة السورية، كل ذلك دفع تركيا لإتمام هذه الصفقة مع الصين.
3- على مستوى التفاعلات الدولية ـ الدولية وأهم ما فيها التقارب والاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة:
لقد أدى استخدام السلاح الكيميائي في سورية إلى اهتمام دولي غير مسبوق تجاه الأزمة في سورية، تمثل في اتجاه الولايات المتحدة لشن ضربة عسكرية ضد نظام بشار الأسد. وقد قابلت روسيا رغبة الرئيس أوباما المترددة بشن العملية العسكرية على سورية بمزيد من الحنكة والاهتمام، إذ وصفت طلبه تفويض الكونغرس له بالتدخل العسكري بالتردد في البحث عن مخرج، في ضوء إعلانه السابق بأن استخدام الكيميائي في سورية بمنزلة خط أحمر يستوجب التدخل العسكري، فضلا عن جملة الضغوط الداخلية التي تعيق أوباما عن التدخل العسكري في سورية. لكن موسكو أوجدت المخرج لواشنطن بطرحها «صفقة الكيميائي» التي بموجبها تحجم واشنطن عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، على أن يتخلى الأخير عن أسلحته الكيميائية بحلول منتصف 2014 والانضمام لمنظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية. وقد صدر قرار مجلس الأمن بالإجماع على ذلك في وقت لاحق بموجب الاتفاق الأميركي ـ الروسي.
واللافت في هذا الأمر هو الدور الروسي الفعال الذي نجح في إقناع جميع الأطراف بقبول ذلك، وذلك إنقاذا لحليف روسيا الوحيد في الشرق الأوسط وآخر موطئ قدم لها على شاطئ البحر المتوسط، ورغبة منها في منع الضربة العسكرية التي قد تتسبب في حدوث انكشاف للموقف الروسي، في حالة تعرض سورية الدولة الحليفة لها للعدوان، في حين تم تجاهل المطالب الإقليمية ومطالب المعارضة السورية الرامية الى إسقاط النظام عن طريق التدخل العسكري. كما أن التسوية السياسية للأزمة، من خلال الدعوة لمؤتمر «جنيف ـ 2» يواجهها العديد من الإشكاليات، منها أن المعارضة منقسمة تجاهه، في حين أن النظام السوري طرح شروطا مسبقة للمشاركة فيه. فهل ستفعلها الديبلوماسية الروسية ثانية، وتجد الحلول المناسبة أمام واشنطن لتسوية الأزمة؟ إن نجحت في ذلك، فهي تصنع لنفسها دورا عالميا جديدا، وتجيب عن سؤال مهم حول دورها في الشرق الأوسط، مفاده: هل الروس قادمون؟