تدخّل تركيا عسكريا وعودتها بقوة الى المشهد السوري شكل، مثل تدخّل روسيا قبل عام، نقطة تحول في مسار الحرب والأحداث وطرح الكثير من التساؤلات أولها ما يتعلق بالجهة الدولية الحاضنة لهذا التدخل ومن أين جاء الضوء الأخضر؟ من روسيا وإيران أم من الولايات المتحدة؟!
ما هو واضح أن أردوغان يبدل في تحالفاته ومقاربته للأزمة السورية، وأن قلق تركيا من خطر نشوء كيان كردي على حدودها الجنوبية دفعها نحو إعادة النظر في أولوياتها السورية.
فأنقرة التي كانت تصر على إسقاط بشار الأسد قبل بدء المرحلة الانتقالية لنقل السلطات إنفاذا لاتفاقي جنيف واحد واثنين، بدأت غداة زيارة أردوغان لبوتين في سانت بطرسبورغ، ترسل إشارات سياسية تشي بإمكان قبولها ببقاء الأسد لفترة محددة خلال المرحلة الانتقالية، لا بل بدت وكأنها متقاطعة مع النظام في حربه المستجدة مع الأكراد في الحسكة، وهذا القلق التركي لا تجد مثيلا له إلا لدى طهران التي تخشى بدورها من انتقال عدوى النموذج الكردي في العراق إلى داخل أراضيها، لاسيما مع بدء تسجيل مناوشات مسلحة مع أكراد إيران في إقليم مهاباد وغيره.
إذن الخوف من الجيوبوليتيك الكردي في زمن رسم الخرائط السياسية، غير من قواعد اللعبة ودفع كل طرف إلى إعادة حساباته من جديد.
الانطباع الأولي الذي ساد أن تركيا قد تكون وصلت الى اتفاق مع روسيا للسماح للأسد بالبقاء في دمشق عاما آخر مقابل قبول موسكو لتدخل أنقرة عسكريا في شمال سورية، وأن أردوغان حصل من طهران وموسكو على موافقتهما على عبور دباباته الى جرابلس نتيجة تقاطع المصالح حيال محاذير التوسع الكردي من جهة، ومقابل حصولهما على ثمن مقابل هو أن يكون للأسد دور في المرحلة الانتقالية في سورية.
وهكذا فإن تركيا التي شرعت في كسر المشروع الكردي شرعت بالمقابل في فتح خطوط اتصال خلفية مع نظام الأسد عبر اجتماعات جرت في طهران أو في بيروت، أو حتى في أنقرة مع ورود معلومات عن إمكان قيام وفد أمني سوري بزيارة الى تركيا.
سواء حصل التدخل التركي تحت غطاء توافق روسي ـ أميركي بموافقة إيرانية، أو تحت غطاء توافق روسي ـ إيراني بموافقة أميركية، فإن الدور الأميركي في حصول هذا التدخل هو دور بارز وحاسم.
فعملية «درع الفرات» التي تنفذها تركيا كانت مقررة قبل عام وجرى تجميدها لعدم موافقة واشنطن عليها. ولم تكن لتنفذ الآن لو لم تحظ بضوء أخضر أميركي.
ما حدث الآن هو استجابة أميركية للضغط التركي الذي هدف الى دفع واشنطن للتخفيف من أضرار اعتمادها على الورقة الكردية لتحقيق استراتيجيتها في سورية، واستجابة واشنطن من شأنها أن تحقق مطلبين أميركيين، هما حاجة أميركية للمراحل المقبلة المنوي تفعيلها: تخفيف منسوب القلق والخشية لدى الأتراك، وبالتالي التخفيف من إزعاجهم، وأيضا إفهام الكرد ضرورة تقليص آمالهم وطموحاتهم، والاكتفاء بتأدية دورهم الوظيفي وما ينجم عنه من فوائد، من دون أن يتمدد الطموح، أقله في المدى المنظور، خارج الهوامش المسموح بها أميركيا.
الپنتاغون استعاد المبادرة عبر عملية «درع الفرات»، ووضع جميع اللاعبين من خصوم الجيش السوري مجددا تحت مظلته.
الأكراد والأتراك و«داعش» ومجموعات المعارضة السورية المسلحة، بدوا جميعا مع الغزو التركي لمدينة جرابلس، أوراقا أميركية متفاوتة الأدوار.
وأهم ما في «درع الفرات» هو أنها تجسد التفاهم التركي ـ الأميركي حول الدخول الى سورية، وأنه يحدث في ذروة سجال وتحليلات عن خلافات أميركية ـ تركية لم تتوقف منذ أسابيع، بل ورهانات بانتقال تركيا من «الناتو» الى محور تركي ـ إيراني ـ روسي، بعد الحديث عن التورط الأميركي بتدبير الانقلاب الفاشل.
أما الخاسر من هذا التطور، فهم الكرد. وهي خسارة مقتطعة من سلة الأرباح المحققة، ومن دون أن تنهي طموحهم الأكبر.
نعم جرعة القوة الزائدة دفعتهم الى التحرك بما يفوق قدراتهم ويتجاوز الإمكانات المتاحة أمامهم أميركيا في الظرف الحالي، فكان رد الفعل التركي برضى أميركي، للحدّ من هذه الطموحات.
التفاهم الأميركي ـ التركي لم يسقط المشروع الكردي بأكمله لكنه أعاد صياغته، بعد أن رفض الأكراد أنفسهم إعادة النظر بمشروعهم.
الفيدرالية الكردية لن تتجاوز من الآن فصاعدا شرق الفرات، وعليها أن تقبل ببناء كيان متقطع الأوصال، هش، وقليل العمق، ومنقطع عن الداخل التركي، ومتداخل مع المدن الكردية وقواعد العمالي الكردستاني فيها.
المشروع الكردي ما بعد «درع الفرات» لم ينته، لكنه تضاءل وتحجم شرقا، والأغلب أنه سيتمدد في محافظة الحسكة إذا ما استمر ضعف دمشق، وهذا مغزى فتح الاشتباك مع الجيش السوري في الشرق، مع اتضاح مؤشرات التوغل التركي في جرابلس.
يشي الموقف الأميركي تجاه النزاع الكردي التركي بأن واشنطن مارست خلال ثلاثة أسابيع الشيء ونقيضه.
فهي قادت الأكراد الى خرق الخط الأحمر التركي في سورية، والآن تضغط عليهم لاحترامه وتربط ذلك باستمرار مساعداتها لهم.
ويدشن بايدن صفحة تعاون جديدة مع أردوغان في سورية انطلاقا من تغطية هجومه على جرابلس ودعم خطوطه الحمر السورية، وإنشاء معادلة تخدم استمرار اعتمادها على الأكراد كجيش بري لها في سورية، وخصوصا في معركتها المقبلة لإخراج تنظيم «داعش» من الرقة الواقعة شمال خط الفرات، وأيضا إبقاء تركيا في مربع حلف «الناتو» وتوجهاته، وكسر استثمار إيران وموسكو في خوفها من وجود مشروع سري أميركي لمصلحة أكراد سورية.
وبالتالي فإن واشنطن أعادت هندسة الميدان في شمال سورية، حيث يعود الأكراد الى مربع شرق الفرات بضمانات أميركية، فيما تركيا تشحن نفوذها بغطاء التحالف الدولي في مناطق غربه المتاخمة لحدودها.
أما حلب عاصمة شمال سورية وأم معاركه الإقليمية والدولية فتدخل في «ستاتيكو استنزافي» للمحور الروسي والإيراني والسوري.
أحداث هذا الأسبوع حملت ثلاث مفاجآت: الأولى تمثلت بدخول تركيا المباشر على خط الحرب في غمرة اعتقاد أن أردوغان وبعد الانقلاب الفاشل ضده، سينشغل بوضعه الداخلي وسيضطر الى تجرع كأس تحدي الأكراد وبتغطية أميركية لخطوطه الحمر في سورية.
المفاجأة الثانية تأتت نتيجة ظهور أن علاقة واشنطن بأنقرة قابلة لإعادة إصلاحها بسرعة، وهذا ما أظهرته أحداث الساعات الماضية حيث حصلت زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بادين لأنقرة، وهذا ما أظهرته احداث الساعات الماضية حيث حصلت زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بادين لأنقرة والذي اعتذر عن تأخر مواساة واشنطن لأردوغان في مناسبة تعرضه لانقلاب، وأيضا إبلاغ كيري نظيره التركي أن واشنطن تحترم الخط الاحمر التركي في سورية.
المفاجأة الثالثة كانت أن زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تركيا ولقاء وزيري الخارجية الأميركي والبريطاني مع القيادة السعودية في جدة لبحث الشأن اليمني، بمشاركة المبعوث الروسي المكلف بملف الشرق الأوسط سلطت الأضواء مجددا على ترابط الملفين السوري واليمني.
وقد تكون الاستدارة التركية في سورية مؤشرا إلى بدء التفاهمات على مستقبل النظام الأمني الجديد، ولعل ما حمله الوزيران جون كيري وبوريس جونسون إلى جدة حول مقاربة جديدة لإنهاء الحرب اليمنية يحمل بذور حلحلة سياسية إقليمية ودولية لملفي سورية واليمن.