بقلم: حمود بن سالم السيابي - هامبورج
كرر عبارة «باي باي لندن» في مئات العروض، وكان أصدقها تلك التي لم ينطقها بلسانه بل رسمها بجفنيه وهو يطبقهما في لندن مودعا الدنيا كلها هذه المرة وليس لندن وحدها.
وكانت خشبات مسرحياته تتنوع وفق المناخات والمضامين والمشاهد إلا أنه اكتفى في العرض الأخير لمسرحية «باي باي لندن» بسرير بحجم الوطن، وقد طغى اللون الأبيض فيه كقصيدة أمل دنقل من الشراشف إلى أرواب الأطباء ومراييل الممرضات ولباس غرف العمليات وأقراص الدواء، وانتهاء بغطاء الوجه الذي لا يكشفه إلا أقرب المقربين لإلقاء النظرة الأخيرة.
وكان عدد المتفرجين في كل عروضه السابقة وفق حجم التسويق والتشويق إلا أنهم كانوا هذه المرة أكبر من أن تحتويهم قاعة مسرح خليجي إذ احتشدوا لحضور العرض الأخير من مسقط إلى نواكشوط رغم غياب التسويق والتشويق.
وكان على أبي عدنان أن يموت في نهاية المسرحية عكس كل الأدوار المسرحية التي يتصالح فيه الأبطال مع المتفرجين.
وكان لابد من أن يرفض المتفرجون إرسال قبلاتهم في الهواء لتحيته وتوديعه بعاصفة من التصفيق، لأنهم رفضوا تقبل الدور الأخير رغم التكثيف والإتقان فيه.
ورفضوا موت البطل فقد اعتادوا ان يتزوج البطل ويربح ويغلب وينتصر.
ورفضوا الخواتيم السوداء للمسرحيات فقد أدمنوا معه ومع غيره النهايات السعيدة.
إلا أن العرض الأخير ل «باي باي لندن» كان لابد له من خاتمة سوداء هذه المرة، وإن تم على مسرح أبيض بشراشفه وملابس أبطاله وألوان أدويته، فعملاق المسرح الخليجي يسحب من حياتنا ضحكاته ويسترد الفرح الذي أشاعه في حياتنا لأكثر من نصف قرن.
وكان لابد من نهاية غير تقليدية بعد أن غابت الضحكة وتحول الخليج العربي إلى أضحوكة، وكثر الضاحكون عليه.
وكان لابد لنهايات سوداء لزمن يصادر فيه الجمرك الخليجي زجاجة الدواء التي تعبر الحدود خشية أن تستقر الزجاجة بجوار سرير مريض خليجي يسعل ويحتضر.
وكان لمثل هذه المعالجة القاتمة للنهايات، في زمن يصنف فيه الخليج العربي عبوة الحليب المجفف على رأس الممنوعات التي تضم السلاح والحشيش خشية ان ترج محتويات العبوة في رضاعة طفل خليجي جائع.
وكان لابد لعبد الحسين عبد الرضا أن يتخير بين الضحك أو غرغرة الصمت، فاختار الاعتزال وهو يرى الزمن الذي عز فيه الضحك، ويرى أميره الصباح وقد أتعبه الركض بين القصور والشيوخ ساعيا بالخير ومصلحا ليكون الخليج شاطئ الخيرين، إلا أنه أسمع لو نادى الأحياء.
وكان لابد لأبي عدنان أن يضع خاتمة سوداء للكوميديا المستحقة بحيث لا يتزوج فيها البطل البطلة ككل القصص، ولا تنفتح الستارة في المشهد الأخير على الأبطال ليستقبلوا تحايا المتفرجين ككل المسرحيات.
وكان لابد لهذا العملاق أن يخرج من الباب الخلفي للمسرح بحيث لا يتعكر برؤية وجوه الخليجيين التي قتلته.
وكان أسواء نهايات العرض الأخير ل «باي باي لندن» والتي تعمد أبو عدنان أن يضيفها على النص هي في رفضه العودة على مقاعد مقصورة الدرجة الأولى في «الخطوط الكويتية» مفضلا عليها النوم في تابوت من خشب الساج بجوار حقيبة ملابسه وأمتعته الشخصية.
لقد رحل أبو عدنان بعد نصف قرن من الضحك ومئات الأدوار التي تركت علامات فارقة في حياتنا.
ورحل ليصطف مع الرواد الذين يتجددون في الحياة وإن غابوا، شأنهم شأن بلده الكويت التي قفزت إلى العصر ولم تهجر الديوانية، وهربت من وطأة صيفها إلى مصايف العالم البارد فاستبد بها الحنين ل «خشب أهل الكويت» والأشرعة وملح البحر.
ورغم كل القيح الذي تركه الزمن الخليجي في صدر الراحل وأميره وأهله فكان لابد للكويت الموجوعة على خليجها من أن تكبر على وجعها وتذكر بالحاجة لاستعادة تراث عبد الرضا في إعادة تشكيل المزاج الخليجي، والابتعاد عن «درب الزلق»، حتى لا تتعثر خطوات المشي فيه.
وأن يقول الخليجيون «باي باي لندن» ولكن لا يقولون أبدا «باي باي عرب».
إن رحيل أبي عدنان ضحكة تموت ووجع يحيا.