«مالك الثروة لا يسعد بامتلاكها، إنما يسعد بإنفاقها» بهذه القيمة، وقيم أخرى غيرها، يقدم لنا الفيلم الإسباني (the platform) حكايته التي تتناول قصة سجناء يقضون فترة حكمهم في زنزانات ذات مستويات مختلفة، مصممة تدريجيا، كل زنزانة منها مخصصة لشخصين، يتم إطعامهم من خلال مائدة تنتقل من الأعلى إلى الأسفل، بحيث يأكل من الأسفل بقايا ما تركه من في الأعلى من طعام.
بدا المكان وكأنه هوة عميقة، تحدد قيمة الانسان بحسب علوه، وفي كل شهر تتغير مستويات السجناء بشكل عشوائي، فيصحو من هو في الأسفل ليجد نفسه في مرتبة أعلى والعكس. ومع هبوط المستويات نجد أن مائدة الطعام قد نفدت، وأصبحت مجرد أوان فارغة، ليحاصر من في الأسفل الجوع طيلة شهر كامل. فيسيطر عليهم قانون الغاب، إما أن تأكل أو تؤكل، ويبدأ السجناء بنهش بعضهم البعض للتخلص من ألم الجوع والبقاء على قيد الحياة.
الواقع المعيش
إن فكرة الفيلم ليست بعيدة عن الواقع المعيش، فالمستويات هي تفاوت المراتب ما بين الفقير والغني وعلاقة الظالم والمظلوم، فيظهر جشع الغني الذي لا يعطي أي اعتبار لمن هم أسفل منه، ولا يكتفي بقدر ما يحتاج من الطعام لكي يكفي جميع من هم في الحفرة وصولا إلى آخر زنزانة في الأسفل، بل إن كل ما يفكر فيه هو التلذذ بالطعام الذي يتوافر له طيلة الشهر الكامل الذي يعيش فيه في هذا المستوى. أما من في الأسفل فيصل بهم الجوع إلى فقدان الذات وتزعزع علاقته بمن معه، فيرتكب جرائم القتل وأكل غيره ليحارب من أجل بقائه حيا. كالسارق الذي يسرق المال، فحاجته الماسة له هي ما جعلت منه مجرما، وعند صعود من هم في الأسفل لأعلى يصبح كل ما يهمهم هو عيش الحياة الرغيدة بعد ما عانوه في الشهر الذي مضى، فينسون أن جشعهم وملذتهم في هذا الشهر ثمنها موت غيرهم بالانتحار أو القتل. فلو فرضنا أن الطعام قد قسم بوجبات متساوية لكل سجين ولكل مستوى لما كان هناك أي ضحايا، ولكن كان الأمر شبه مستحيل. وهذا بالضبط حال الواقع الذي نعيشه فلو أن الغني اكتفى بما يحتاجه فعلا لما كان هناك وجود للجوع والفقر والمجاعات، فيبين الفيلم أن ما يحدث للبقية هو مسؤوليتنا، مسؤولية جميع من هم في المراتب الأعلى.
شخصيات العمل
أما عن بطل الفيلم فقد كان في البداية ساذجا غير مدرك لآلية عمل الأمور، ومع مرور فترة على بقائه في الحفرة وتفاوت المستويات التي مكث بها، تتطور شخصيته لتصبح أكثر وعيا من بقية الشخصيات، فيصبح مدركا للعلاقة بين الأعلى والأسفل.
يواجه البطل شخصيتين، الأولى لشخص حاول قتله في أحد المستويات ليبقى على قيد الحياة، أما الشخصية الأخرى فقد انتحرت شنقا بدلا من الوقوع في الهاوية لكي لا تهدر جسدها ولكي تكون غذاء للبطل بعد موتها ليستطيع البقاء حيا. فكان هناك المحارب واليائس، والقاتل والمنتحر، شخصيتان متضادتان في الفعل ومتشاركتان في المأساة، فالحال في الأسفل إما أن ترتكب جرائم شنيعة أو أن تفضل الموت.
ومن الجدير بالذكر أن إحدى الشخصيات قد ذكرت غرابة أن البطل كان قد اختار أن يملك كتابا ليقرأه في الزنزانة مما جعل هذه الشخصية ودية بشكل أكبر معه، فقد رأته مختلفا قائلة إنه لم يحدث من قبل أن جاء أحد إلى هذا المكان جالبا معه كتابا، فكانت تلك جانبا فرعيا لذكر شخصية البطل وذكر أحد أسباب وعيه المتفاوت عن غيره والواضح في الفيلم.
كانت هناك شخصية تبحث عن طفلها، مؤمنة بأنه موجود في هذا المكان ولكن لم يكن يصدقها أحد، فكانت تفعل المستحيل للوصول إلى فيها بما فيه قتل العديد من حولها، غير مبالية لما حولها.
دلالات إنسانية
تميز الفيلم باهتمامه بموضوع الدلالات، مثل دلالة الرقم 333 والتي تدل في العلوم الروحانية على أنها تشكل اندماج العقل والجسد والروح معا، أي بصورة أخرى تعبر عن الإنسان.
كما تميز الفيلم بالعديد من اللقطات التي تصيب المتلقي بالقشعريرة، وتجعله يحتاج لثوان حتى يستعيد توازنه مرة أخرى، محاولة منه للتماسك من هول ما يراه، خاصة تلك المشاهد التي تتابع هبوط البطل للمستويات السفلى، فقد نجح المخرج في تصوير المفارقة ما بين الأعلى والأسفل، بين المائدة الممتلئة بالطعام، ودماء مبعثرة وأشلاء بشرية ومناظر مروعة يعيشها من في الأسفل.
فيلم (the platform) من إخراج غالدير غازتيللو، يستحق المشاهدة في ظل ظروف الحظر التي فرضها انتشار الوباء، والتي جعلت العالم يعيش في زنزانة كبيرة، كما يدعونا الفيلم إلى تقدير النعم التي تحيط بنا، وإعادة حساباتنا في كل تفاصيل حياتنا.
بقلم: حنين ناصر سالمة
طالبة في قسم النقد والأدب المسرحي