أحمد يوسف
مع انتعاش البورصة في مصر ودول الخليج، والمكاسب الكبيرة التي حققها حملة الأسهم في غضون العام الماضي، ترك الكثيرون اعمالهم، وتفرغوا لمتابعة استثماراتهم، وهو ما عاد بأثر سلبي على أنشطتهم الاصلية.
ففي مصر ترك مهندسون ومحاسبون وأطباء مكاتبهم وعياداتهم وتفرغوا للذهاب لشركات السمسرة لمتابعة استثماراتهم المالية، سعيا وراء الارباح الكبيرة التي حققتها اطروحات شركتي سيدي كرير للبتروكيماويات، والاسكندرية للزيوت المعدنية، الى جانب اسهم اخرى موجودة بالبورصة، حققت طفرات سعرية خلال العام الماضي.
لقد بدأت المسألة بشراء بعض الاسهم، واقتضى ذلك التردد على شركات الوساطة للسؤال عن البيانات المالية لتلك الشركات والتوقعات لأسهمها خلال الفترات المقبلة، والرد على الشائعات المثارة بالسوق حولها.
وتطلب الأمر حضور الجمعيات العمومية للشركات للاقتراب منها أكثر، وبالتدريج زاد الوقت المخصص لمتابعة الاستثمارات حفاظا على الأموال التي زاد حجمها بفعل الأرباح.
وعندما قارن هؤلاء بين ما حققوه من أرباح معفاة من الضرائب في البورصة، والصعوبات التي يلاقونها في أعمالهم الأصلية الخاضعة للضرائب، والتي يفتش عليها أكثر من جهاز بيروقراطي وجدوا التفرغ للبورصة أسهل وأجدى.
ونفس الأمر لرجال أعمال خصصوا جانبا من أموالهم للتعامل بالبورصة، وعندما ذاقوا طعم الأرباح السريعة التي لا تتحقق في أعمالهم الأصلية، زادوا من المبالغ المستثمرة بالبورصة، وبعد أن كانت بالآلاف أصبحت بالملايين.
الظاهرة نفسها تفشت في دول الخليج وأصبح الشباب يحملون جهاز الكمبيوتر المحمول (لاب توب) للجلوس في أي مكان لمتابعة الجلسة الصباحية للتداول.
وأصبح الذهاب للبنك لمتابعة شاشات التداول بالبنوك أمرا شائعا بين الموظفين السعوديين، وهو ما دعا الجهات المسؤولة إلى إصدار منشور رسمي بعدم الخروج من مكان العمل أثناء الدوام.
كما قام بعض أصحاب الأعمال الصغيرة في السعودية مثل: البقالة وغيرها بتصفية أعمالهم، والتفرغ للمضاربة بالأسهم في ظل المكاسب الكبيرة التي تحققها.
ولقد بدأت الظاهرة منذ 3 سنوات، لكنها زادت منذ عامين، وأثر ذلك سلبا على سوق العقارات السعودية، مع التوجه إلى الاستثمار بالبورصة.
المحصلة هي سحب البورصة سيولة كبيرة من الأسواق العربية كان يفترض أن تتجه إلى البنوك التي تعيد بدورها ضخها في شرايين الاقتصاد، من خلال إقراضها للمشروعات أو المساهمة في تأسيس مشروعات جديدة، أو يوجه هؤلاء المستثمرون الأموال لعمل مشروعات متنوعة الأنشطة.
وحتى يتضح حجم التأثير السلبي لما حدث، فإن البورصة مكونة من سوقين إحداهما هي سوق الإصدار التي يتم فيها إصدار الأسهم والسندات، خلال عمليات تأسيس الشركات أو عند توسعها في زيادة رؤوس أموالها، أو إصدار سندات عند حاجتها للتمويل.
والسوق الأخرى، هي سوق التداول التي يتم فيها بيع وشراء الأسهم التي أوجدتها سوق الإصدار.
ولقد تم إنشاء سوق التداول لتكون معبرا يسهل الخروج من سوق الإصدار عند رغبة المتعاملين فيها، وكما أن سوق التداول تمكن حملة الأسهم من بيع أسهمهم، فهي تيسر لهم فرصة الخروج من السوق عندما يريدون، ومن هنا، فهي تشجعهم على دخول سوق الإصدار، لأنهم يعلمون أن إمكانية الخروج منها متاحة في كل وقت.
وهكذا فإن السوق الأكثر إفادة للاقتصاد، هي سوق الإصدار، لأنها ترتبط بواقع الشركات، سواء الشركات الجديدة التي يتم تأسيسها أو الشركات القائمة التي يتم ضخ أموال إليها، سواء للتوسع أو لاستمرار النشاط أو علاج التعثر المالي أحيانا.
ومن هنا فإن أي أموال، ولو قليلة، تدخل سوق الإصدار تتحول إلى طاقات إنتاجية سلعية أو خدمية داخل الاقتصاد، وتتيح فرص عمل جديدة، وإمكانية كبرى لتصدير المنتجات.
أما سوق التداول، فهي عبارة عن أموال متداولة بين البائعين والمشترين لا تضيف للاقتصاد القومي شيئا جديدا، ومن هنا لا يتم احتساب تعاملات سوق التداول بالبورصة، مهما كانت ضخامتها ضمن الناتج المحلي الإجمالي، لأنها أموال غير منتجة.
فهي أموال تنتقل من شخص إلى آخر، ومن مؤسسة مالية إلى مؤسسة أخرى.
وعادة ما تكون أرباح طرف على حساب خسائر آخر، والغالب أن تكون الخسائر من نصيب صغار المتعاملين.
ومن هنا يتمثل الخطر في توجيه غالب الأموال بالأسواق إلى سوق التداول، حيث يعني ذلك سحب أموال كان من الممكن أن يتم ضخها إلى القطاعات الإنتاجية والخدمية بالمجتمع.
وتزداد خطورة ذلك في ظل وجود عجز بالميزان التجاري لدى 7 دول عربية هي: الأردن وتونس ولبنان ومصر والمغرب وموريتانيا وجيبوتي، بعد أن كانت ثماني دول بالعام السابق ولولا الصادرات البترولية لزاد العدد كثيرا.
كما عانت 14 دولة عربية من وجود عجز بميزان الخدمات بها، فضلا عن وجود عجز بميزان الحساب الرأسمالي والمالي في 10 دول عربية في العام نفسه.
وبالتالي فإن ظروف المنطقة تحتاج إلى الاتجاه إلى الاستثمار بقطاعات الاقتصاد الحقيقي لإنتاج السلع والخدمات التي تحتاجها المنطقة أو يمكن تصديرها، وخاصة أن المنطقة العربية مازالت تعاني من عجز غذائي واضح.
ولم تتمكن الصناعات الاستهلاكية العربية من الوفاء بكل حاجات الأسواق المحلية، وما زال إنتاج الصناعات الخفيفة يشكل حوالي نصف الإنتاج الصناعي العربي، ولا تزيد حصة إنتاج الصناعات الوسيطة العربية، على ثلث الإنتاج الصناعي العربي، كما تمثل الصناعات الرأسمالية الثقيلة نسبة قليلة.
وعلى الحكومات العربية أن توازن بين المزايا الممنوحة للتعامل بالبورصات والاتجاه إلى الاستثمار بالقطاعات الإنتاجية السلعية والخدمية بل يجب أن تميز الأنشطة الإنتاجية سواء في المعاملة الضريبية او فائدة الإقراض او الدعم التقني او المساندة التسويقية.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )