منذ العام 1992 عمدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة الى اتباع سياسات التثبيت النقدي بهدف تثبيت سعر صرف الليرة وخفض معدل التضخم ومعدل نمو الكتلة النقدية.
ان الاستقرار النقدي هدف رئيسي للسلطات المالية في فترة ما بعد الحرب، بعدما عانت البلاد من تدهور شديد في سعر العملة الوطنية، ومن نسب تضخم مرتفعة جدا، خصوصا في النصف الثاني من الثمانينيات، وقد تشكلت الوسائل المالية المستخدمة في هذه السياسة من التدخل المباشر لمصرف لبنان في سوق القطع، بالترافق مع ارتفاع في نسبة الفوائد واصدار السندات لامتصاص السيولة وتحقيق الأهداف المالية.
وقد أدت السياسة المالية الصارمة التي اتبعها مصرف لبنان والحكومة الى انخفاض معدلات التضخم من 120% في 1992 الى نحو 4% العام 2007 والى تحسن كبير في سعر الصرف.
لكن هذه النتائج الايجابية انطوت على كلفة كبيرة.
فابتداء من منتصف التسعينيات بدأت معدلات النمو في التدهور حتى شهد الاقتصاد نسبة تباطؤ في العام 2000 مع معدل نمو 0% وتأذى الانتاج والاستثمار بشكل كبير نتيجة تكلفة الفوائد المرتفعة. كما ازدادت معدلات البطالة وتمت اعادة توزيع الموارد المالية والدخل من قطاعات انتاجية نحو قطاعات ريع مالية.
وتدهور الحساب الجاري لميزان المدفوعات نتيجة فقدان الصادرات قدرتها التنافسية تحت تأثير ارتفاع سعر الصرف الفعلي من جهة، وازدياد الواردات المغذاة بقدر أكبر من الاستهلاك من جهة أخرى، حتى الفوائض في ميزان المدفوعات تضاءلت وتحولت الى عجوزات.
وأدت الفوائد المرتفعة على السندات الى ازدياد خدمة الدين كنسبة من نفقات الموازنة، ما ترجم بازدياد العجز وتراكم كبير للدين العام، الأمر الذي شكل حلقة مفرغة من الديون والعجز.
أما عجز الموازنة فقد تشكل وفقا لانحياز بنيوي لمصلحة الريع كما النسبة المتزايدة لحصة خدمة الدين التي تنفرد بأكثر من نصف نفقات الحكومة.
أما سندات الحكومة فقد استأثرت بمعظم الموارد المالية وبخاصة الموارد المصرفية، ما أدى الى تقلص في السلفات.
وفي بداية الألفية الثالثة كانت أزمة ثقة قد تكونت مع عدم تحقيق النتائج المالية المرجوة بعد عقد من السياسات المكلفة.
يمكن تقسيم الأداء الاقتصادي خلال فترة التسعينيات مرحلتين:
الأولى: استمرت من العام 95 واتسمت بمعدلات نمو قوية بلغت وسطيا 6.5% نتيجة الدفع التلقائي للاقتصاد من جراء انتهاء الحرب، ومشروع الاعمار الذي أطلقته الدولة في بداية التسعينيات.
وفي هذا الاطار، نتج النمو بشكل أساسي عن الاستهلاك والواردات عوضا عن الانتاج، واستمرت القطاعات الانتاجية كالزراعة والصناعة تباطؤا، كما يتبين من اقفال المصانع، والتراجع النسبي للتصدير القائم على ظاهرة البطالة، أو اغلاق المؤسسات الصناعية والتجارية وصرف العمال، بالاضافة الى حصة هذين القطاعين المتدنية من اجمالي القروض المصرفية خلال التسعينيات، ولم تعتمد الدولة أي سياسة هادفة لتشجيع الاستثمار في القطاعات الانتاجية ما عدا القروض المدعومة فوائدها من مصرف لبنان.
وفي هذا الاطار، ازدادت الاختلالات في الميزان التجاري جراء ضعف الانتاج والاعتماد على الواردات لتحقيق النمو. فالعجز التجاري مسألة بنيوية للاقتصاد اللبناني.
كما ازدادت حدته في التسعينيات حتى انخفضت تغطية الصادرات للواردات الى 11% كمعدل وسطي خلال الفترة.
ان كلفة الانتاج الباهظة في بنية اقتصاد ريعي يتسم بفوائد مرتفعة، ونسب ريع مرتفعة على القطاع العقاري، بالتزامن مع ارتفاع سعر الصرف الفعلي، وغياب سياسة هادفة للتجارة الخارجية قد أضعفت القدرة التنافسية للصادرات، ولكن العجز التجاري لا يشكل مدعاة للقلق في حال كان هذا العجز عجزا تنمويا يتشكل جراء واردات استثمارية تهدف الى تمكين الاقتصاد المحلي من انتاج السلع الاستثمارية على المدى الطويل، والتخلي عن السلع المستوردة، وتاليا خفض العجز في ميزان المدفوعات.
أما في لبنان فإن القسم الأكبر من الواردات كان ولايزال ذا طابع استهلاكي، ولكن هذا النمط اشتدت وطأته خلال التسعينيات مع النمو الاستهلاكي والازدياد في العادات المكلفة لقسم من اللبنانيين نتيجة انعدام الطبقة الوسطى، واعادة توزيع الدخل لمصلحة الريع والرأسمال الكسول على حساب الرأسمال المنتج، فازدادت حصة الوادرات الاستهلاكية من مجمل الواردات وذلك على حساب الواردات الاستثمارية.
لقد ارتفع مجموع خدمة الدين وتدهور وضع المالية العامة بشكل كبير (بالأخص منذ العام 1997)، كما ارتفعت نسب العجز نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي، ونتج هذا العجز في البداية عن السياسات المالية الانفلاشية التي واكبت مشاريع اعادة الاعمار الاستثمارية.
لكن مع استمرار سياسة التثبيت النقدي والفوائد المرتفعة، أصبحت خدمة الدين هي المصدر الأساسي لازدياد العجز.
وفي ظل الوضع المتردي، أخذ الدين منحى تصاعديا، عاكسا العجوزات المتراكمة من ناحية وموجبات سياسة التثبيت من فوائد عالية واصدارات سندات بحجم يزيد عن المطلوب لامتصاص السيولة، وكبح التضخم، ولجم نمو الكتلة النقدية.
وقد سجل الدين العام للناتج المحلي نسبا غير مسبوقة الى حدود 180% حاليا، ما أخذ يطرح تساؤلات حول قدرة الدولة على الاستمرار في الاستدانة مع معدلات نمو للدين تفوق معدلات النمو الحقيقية للاقتصاد.
ان الفكرة المعهودة حول عجز الموازنة والدين العام تقر بأن ازدياد الدين يطرد الاستثمار الخاص نتيجة زيادة معدلات الفائدة التي ترافق عملية الاستدانة، فتزداد حصة الدولة من مجمل التسليفات في الاقتصاد الوطني، وذلك على حساب القطاع الخاص.
لكن في الوقت نفسه، هناك نظرية مختلفة تقترح ان الازدياد في النفقات وتاليا تنامي العجز يؤدي الى استقطاب الاستثمار الخاص كما حصل في بعض البلدان الشرق آسيوية.
فالعجز بذاته لا يشكل مشكلة اقتصادية، على العكس فهو يعتبر ضروريا في حال نتج عن سياسات تنموية تهدف الى دعم الانتاج المحلي، فما يهم هو نمط العجز.
في لبنان ليس لعجز الموازنة أي بعد تنموي، انما نتج هذا العجز عن تركيب مجموعة من الانحيازات البنيوية لمصلحة الريع، بالاضافة الى عدم قدرة الطبقة الحاكمة على تفعيل التأثيرات الايجابية لمشروع اعادة الاعمار الاستثماري، وسياسة تثبيت مالي سرعان ما ضخمت عنصر خدمة الدين من اجمالي النفقات الحكومية ما أدى الى طرد الانفاق الاستثماري.
وكان لمجموع المبالغ المدفوعة على خدمة الدين أثر انكماشي كبير على الاقتصاد الوطني، ان النسبة المتزايدة للانفاق الجاري وأكثره لخدمة الدين تركت هامشا ضئيلا للدولة للقيام بانفاق ذات طابع تنموي واستثماري.
كما ان ازدياد الدين بحد ذاته ينطوي على اعادة توزيع للدخل في غير مصلحة المكلفين (صاحب الدخل ورأس المال) الذين يدفعون الضرائب، وفي مصلحة حاملي السندات (المصارف والمودعين الكبار) الذين يستفيدون من عائدات الفوائد، خاصة ان مالكي السندات لا يساهمون في دفع الضرائب لخدمة الدين نتيجة بنية النظام الضريبي التراجعي الذي يعفي مصادر الريع كما هي حال النظام الضريبي اللبناني.
وتشتد وطأة اعادة التوزيع هذه في ظل تركز الودائع في القطاع المصرفي.
وتشير الدراسات الى سياسات التثبيت المالي من حيث ترافقها مع تدهور في توزيع الدخل، فإضافة الى لجمها النمو تنتج هذه السياسات:
- تأثيرات سلبية على فئات واسعة من المجتمع. فازدياد كلفة التسليف وندرته المتزايدة ينعكسان سلبا على المستهلكين من الطبقات الفقيرة والوسطى، والمزارعين وأصحاب المؤسسات الانتاجية التي تعتمد نشاطاتهم الاقتصادية على التسليفات.
- تفشي البطالة، وتضاف اليها البطالة الموسمية ولأسباب أهمها التباطؤ الاقتصادي وانخفاض الاستثمار وتركز النشاطات الاقتصادية في قطاع الخدمات (بما فيها الخدمات المالية) مع اهمال القطاعات الانتاجية.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )