تعيش اليونان حالة غليان منذ أسابيع ويبدو ان أجواء ما قبل الثورة تهيمن على أجزاء من اثينا.
وليس هذا إلا عينة أولية مما يمكن ان يواجهه العالم مع بدء انقلاب حياة 200 مليون انسان رأسا على عقب نتيجة «أزمة الرأسمالية».
نحن نتقدم نحو المرحلة السياسية من هذا القطار العالمي المحطم.
الأنظمة تخضع للامتحان، وتلك التي تعتمد على فورة الازدهار الدائمة لتمويه افتقارها الى شرعية ديموقراطية او تاريخية يمكن ان تحاول كسب الوقت بالوسائل المعتادة مثل الحواجز التجارية وقعقعة السلاح والأسلاك الشائكة.
وبلغ من قلق رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك ستروس ـ كان انه نبذ نصف قرن من معتقدات الصندوق ودعا الى تعزيز مالي يعادل 2% من اجمالي الناتج المحلي العالمي لدرء خطر ركود عالمي.
وقال: «اذا لم نفعل ذلك فان كثيرا من البلدان يمكن ان يشهد قلاقل اجتماعية ومنها بلدان الاقتصادات المتقدمة.
نحن نواجه انحدارا غير مسبوق في الناتج».
وكان رد فعل الناس في كل انحاء العالم ينتقل من المفاجأة الى الغضب ومن الغضب الى الخوف.
وتعمل روسيا الآن على تقليص التجارة في سياق تأقلمها مع صدمة انخفاض اسعار النفط الى ما دون 40 دولارا للبرميل.
وقال رئيس الوزراء فلاديمير بوتين انه بالامكان خلال الأزمة المالية دعم المنتجين المحليين برفع الجمارك.
وبالفعل فرضت روسيا تعرفات استيراد بنسبة 30% على السيارات و15% على المعدات الزراعية و95% على الدجاج الذي تتجاوز كمياته الحصص المقررة.
وليست روسيا وحيدة فقد فرضت الهند وڤيتنام ايضا تعرفات على الصلب، وفرضت اندونيسيا تراخيص خاصة لتقليص الواردات.
وينتاب الكرملين القلق من تراجع الناتج الصناعي بنسبة 13% خلال الاشهر الخمسة الماضية، ووقعت احتجاجات في الشوارع في عدد من المدن الرئيسية، كما ان قوات الشرطة سحقت متظاهرين يرفعون فوق رؤوسهم نسخا من الدستور الروسي في موسكو.
وعلق احد المراقبين بقوله انه لم يسبق لروسيا ان شهدت مثل هذه الاحتجاجات في ارجاء البلاد.
ويسعى مجلس الدوما الى توسيع قانون الخيانة ليشمل معظم اشكال المعارضة السياسية والصحافة غير المرغوب فيها، كما ستلغى المحاكمات امام هيئة محلفين بالنسبة للجرائم المتعلقة بالدولة.
النذر في الصين ايضا ليست جيدة، فالشرطة تضع اجهزة تنصت في سيارات الاجرة، ولا احد يعرف كيف سيكون رد فعل الصين اذا ما اخفقت استراتيجية التصدير التي توجهها الدولة وخلفت وراءها الكتل الاسمنتية لمصانع فائضة عن الحاجة.
وفي نوفمبر انخفضت الصادرات بنسبة 2.2% بينما يجري اغلاق مصانع للنسيج والأحذية والأثاث في ارجاء اقليم غوانغ دونغ الذي اصبح مركز اعمال الشغب في جنوب الصين.
ومن المتوقع ان يفقد نحو 40 مليون عامل صيني اعمالهم، في حين حذر مسؤولو الحزب من «غليان اجتماعي واسع النطاق».
المكتب السياسي يعطي اشارات متضاربة، ونحن لا نعرف كم من رزمة تحفيز الطلب الداخلي بـ 586 مليار دولار حقيقي وكم منها مجرد قائمة رغبات ارسلت الى قيادات الحزب في المناطق الداخلية من دون اموال؟
وبعد وقت قصير من اعلان الرئيس هو جنتاو أن الصين أخذت «تفقد تفوقها التنافسي في الاسواق العالمية» شهدنا تحركا نحو دعم الصادرات لصناعة الصلب وانخفاضا في قيمة اليوان بالرغم من ان الصين تمتلك اضخم احتياطيات في العالم (2 تريليون دولار) واضخم فائض تجاري (40 مليار دولار في الشهر).
فهل يفكر الحزب الشيوعي في العودة الى استراتيجية ثلاثينيات القرن الماضي بتخفيض قيمة العملة للخروج من الازمة عن طريق زيادة الصادرات؟ مثل هذه الميركانتيلية الفظة ستجر بالتأكيد ردا حادا من واشنطن والاتحاد الاوروبي.
وكما يقول احد المراقبين فانه من غير المقبول خلال الركود العالمي ان تبادر بعض البلدان الى استغلال البلدان الاخرى عن طريق التلاعب بعملاتها.
وهذا هو رأي الرئيس المنتخب باراك اوباما الذي قال في اكتوبر الماضي: «على الصين ان تبدل اساليبها المتعلقة بالعملة لأنها تثبت سعر عملتها عند مستوى متدن بشكل مصطنع، انها تمتلك فوائض هائلة في الحساب الجاري وهذا ليس في مصلحة الشركات والعمال في الولايات المتحدة وفي العالم».
ولا شك في ان الاعضاء الديموقراطيين الراديكاليين الجدد في الكونغرس سيذكرونه بذلك.
وفي الآونة الاخيرة اخذ الحديث يدور حول قانون «سموت ـ هولي للتعرفات» الذي اطلق العنان لسياسات الحماية في ثلاثينيات القرن الماضي.
وعادة يسوق دعاة السوق الحرة هذا القانون لطرح الفكرة الخطأ.
فالمهم في ذلك القانون هو ان أميركا كانت آنذاك المصدر الكبير مثلما هي الصين حاليا.
وبلجوئها الى التعرفات اطلقت ردود فعل انتقامية جعلتها اكبر ضحية لحماقتها.
وتراجعت بريطانيا وبلدان الكومنولث الى «التفضيل الامبراطوري» وانضمت اليها بلدان اخرى.
واصبحت تلك في الثلاثينيات «كتلة النمو» المتحررة من القيود الانكماشية لـ «معيار الذهب».
وبذلك حالت التعرفات دون تسرب التحفيز.
كانت تلك استراتيجية ناجحة نظرا الى البدائل السيئة وكانت السبب الرئيسي وراء انكماش الاقتصاد البريطاني بنسبة 5% فقط خلال الكساد الكبير مقابل 15% في فرنسا و30% في الولايات المتحدة، هل يمكن ان نشهد مثل «كتلة النمو» المغلقة هذه الآن ولكن بقيادة الولايات المتحدة، الأمر الذي سيعني تفككا هائلا للنظام التجاري العالمي؟ ربما، فالأزمة احدثت سلفا ثورة نقدية مع اقتراب اسعار الفائدة من الصفر في البلدان الصناعية العشرة الرئيسية.
ومن الممكن ان تقلب «النظام العالمي الجديد ايضا» الا اذا تحركنا بعناية كبيرة في الأشهر الكئيبة المقبلة، وعند هذه النقطة تصبح الأحداث خطيرة.
لقد بلغت آخر حقبة عظيمة للعولمة ذروتها قبل 1914 بقليل، وانتم تعرفون بقية القصة.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )