بقلم: مصطفى محمد ريان
مضت الأيام والاسابيع على فراقك يا جدي الحبيب. بدايتها كانت صعبة، حيث ان رحيلك اصاب ذكرياتي وحاضري بخلل، وربما عدم استيعاب وحزن.
قبل ان ابدأ، اعتذر منك يا جدي، اعتذر منك على المرات التي تكاسلت بها عن الاتصال بك، وعلى ثماني سنوات لم ارك فيها، اعلم ان الظروف كانت قاسية على العائلة في كل اركان العالم، فلربما كان بإمكاني ان ألحّ اكثر على امي وأبي لرؤيتك، ياليتني وياليتني وياليتني...
أحن إلى زمان كنت اراك كل صباح قبل ذهابي الى المدرسة وأنت تحتسي قهوتك.
في صغري لم يكن مسموحا لي بأن اشرب القهوة، لكن عندما كبرت قليلا كنت تسكب لي رشفة صغيرة، وفور ان اشربها تقول: «هي طلعلك شوارب» (هي الشوارب طلعوا وكبروا بس ما بنقدر نشرب فنجان قهوة سوي).
بعدها تذهب لحلاقة ذقنك في بيت الذكريات والمحبة: الجلاء، المزة. عند نهاية يومي في المدرسة، اراك في انتظاري في سيارتك الـ «شفروليه اوبترا» فضية اللون ودائما ما كنت تهتم بها.
في طريقنا نذهب الى دكان «ابوحسن» لجلب الحلويات والسكاكر، بجانب ابوعارف الذي كنت توصيه على الطعام في المناسبات.
كنا نحرص دائما على ان نجلب السكاكر ايضا لمن ينتظرنا في البيت، جدتي العزيزة او خالتي الحبيبة وآخرون... فور عودتنا، تتهافت روائح الاكل البيتي الفلسطيني علينا، لا يوجد أكل في العالم كأكل جدتي الغالية رحمها الله.
كنا نأكل على الطاولة امام التلفاز، مع العناصر الاساسية لك مع كل وجبة غداء؛ جرجير، فجل، وفلفل أخضر حار، الله وحده العليم على قدرتكم على أكله وحبه.
إن كان الجو الدمشقي لطيفا، نجلس على الشرفة، حيث تفوح رائحة الياسمين والريحان التي كانت تزرعه (تيتا).
لعبنا الدومينو معا، وعلمتني القليل من الشطرنج وطاولة الزهر، وبجانبنا تتدلى اوراق العنب والبعض من ثمراته، وفور مرور أي احد على الرصيف الموازي لنا، دائما ما كان يلقي التحية عليك.
كان سكان الحي يحبونك للغاية، وأنا متأكد من أنهم يدعون لك ويترحمون عليك بعد رحيلك.
اتذكر عندما كنت رئيسا للجنة المبنى، رغم تعبك، كنت دائما ما تقوم بأعمال سيتذكرها لك السكان لسنوات عديدة، كتجديد المصاعد، وترميم المداخل، وبناء محلات للإيجار ليستفيد منها جميع السكان، اذكر ايضا مكتبك الذي جددته في الطابق الارضي، حيث كنت تقيم اجتماعات مجلس السكان.
اتذكر يا جدي (المشاوير) التي كنا نقوم بها معا، كسوق المزة للخضراوات، حيث علمتني انتقاء الخضراوات والفواكه الشهية، واللحام بالقرب من السوق، والبزورية بجانبه، التي كنت دائما تشتري لي حلوى اليانسون الملونة من عندها، التي مازال مذاقها على لساني، اتذكر صحنايا وبيتك الذي كنت تؤجره هناك، ومخبز الشيخ سعد، حيث كنا نأكل الخبز الطازج والساخن في طريقنا، وأتذكر محل القطايف في رمضان، حيث كنا نشتري القطايف لنحشوها معا على الطاولة، وتذوقي للحشوة للتأكد من طعمها لصغر سني على الصيام.
كم كنت اتمنى وجودك معي الآن، فلقد كبرت وغطى الشعر ملامح وجهي طفولتي، وأصبحت اقود السيارة، وبدأت الدراسة في الجامعة، وأصبحت شابا لا يكتفي إلا بالنجاح.
كم اريد ان اتعلم منك اكثر، وأن اناقشك في كل الامور، من العلم والتاريخ، الى الفريق الذي شجعناه معا، برشلونة.
صحيح انهم يمرون بفترة عسيرة لكنهم فازوا بآخر مباراة بأداء جيد، اطمئن يا جدي سيعودون الى مجدهم... اطمئن علينا يا جدي، كلنا بخير، كلنا ندعو لك ونتذكر الأيام الجميلة التي كنت انت نجمها وستظل اسطورتها.
اتذكر تلك «الرسالة» التي كتبتها لك يا جدي عند تغلبك على السرطان الملعون للمرة الثانية،كانت بداية حبي للكتابة وكتبت لك: «اشتقت لك يا جدي، انت جدي الوحيد، اشتقت الى بلدي، بلد الياسمين، اشتقت الى شخص علمني كيف اصبح بين الاساطير.
علمتني الكثير ومازلت تعلمني أنه لا شيء مستحيل، تفوقت على الدنيا التي رمت على عاتقيك الكثير، علمتني خبرات ودروسا باقية معي الى يوم الرحيل.
اعتذر منك يا جدي على كل يوم جعلناك حزينا، لكن لا تنس يا جدي انك دوما ستكون اسطورتي وملك الاساطير. فرقونا بالحروب يا جدي، ولكن لن يستطيعوا ان يفرقوا قلوبنا اجمعين.
تركت البلد الذي نشأت فيه لكن قلبي يعود إليه كل حين، الى بلد الفل والياسمين.
لا يهم أنه لا احد يعرفني او يأخذني على محمل الجد، لكن المهم ان جدي مقاتل ومن الاساطير، ستبقى دوما في قلبي وأدعو لك بالعمر المديد».
أتذكر ردك وفخرك بي، أعجبك اسلوبي وقلت لي انه بإمكاني ان اصبح كاتبا يوما ما... أنا أشبهك اكثر مما توقعت يا جدو، كلانا نحب الكتابة، وكلانا نحب الرياضة، وكلانا متعلقون بعائلاتنا.
اعدك يا جدي ان اتفوق في العديد من المجالات، مثلما تفوقت انت، وأعدك بأن تظل في ذهني الى لقائنا بإذن الله، وأن حبك وتعاليمك ستبقى كالدليل لي في حياتي...
كنت رجلا فريدا من نوعه، قويا، شغوفا، صبورا، ذكيا، وأسطورة في عالمي... كم اتمنى ان استطيع ان اقول «انك»، وليس «كنت»...
حفيدك الصغير، مصطفى محمد ريان
أطلب منكم قراءة الفاتحة على روحه. الله يرحمك يا جدو ويجعل مثواك الجنة. الله يرحم أمواتنا جميعا ويغفر لهم.