تحت عنوان «التعايش السلمي من منظور فقهي وتاريخي»، قدم الباحث الاسلامي الشيخ راضي حبيب ورقة لمؤتمر رابطة علماء الخليج بدول مجلس التعاون الثاني ووزارة الاوقاف والذي انعقد في الكويت 23 ـ 24 الجاري.
وقال حبيب ان نظرية فقه المجتمع نشأت في نطاق الاستنباط الفقهي، من خلال ظاهرة تنظيم الاتصال بين افراد المجتمع كمجموعة بالمصالح العامة، وهو ما يصطلح عليه بالتعايش، حيث ينقسم البحث الفقهي الى قسمين خاص وعام وهما «فقه الفرد» وهو ينظر الى المسائل الفردية على نحو فرض عين الخاص بالفرد كفرد، ومثال على ذلك كأحكام الطهارة، و«فقه المجتمع» وهو ينظر الى المسائل الاجتماعية على نحو فرض كفاية المتعلق بمجموعة أفراد المجتمع، ومثال على ذلك كأحكام صلاة الجماعة التي لا تصح الا بشرط حضور مجموعة افراد بعدد معين، واحكام الزكاة وغيرها من المسائل التي تتعلق بالمجتمع بنحو مباشر، وعلى هذا المبنى التقسيمي يندرج موضوع التعايش تحت فقه المجتمع، لانه من طبيعته يهتم بعلاقة الفرد مع الآخرين من افراد المجتمع الانساني.
واضاف حبيب في ورقته انه يوجد عدة أقسام للتعايش السلمي سنذكرها على سبيل الاختصار والايجاز.
التعايش الديني: وهو ما يكون بين مختلف الاديان السماوية.
التعايش المذهبي: وهو ما يكون بين مختلف المذاهب الاسلامية.
التعايش السياسي: وهو ما يكون بين مختلف الدول والحكومات والسلطات السياسية.
التعايش الاجتماعي: وهو ما يكون بين مختلف أفراد المجتمع الواحد أو بين مختلف المجتمعات الانسانية.
واكد ان التعايش السلمي يقوم على عدة أركان محورية ومبادئ أساسية يعتمد عليها في مرحلتي التكوين والتأصيل، وأمور كمالية أخرى ولكن ليس من شأنها ان تخل بأصل التعايش لو أنها تركت، وسنتطرق الى ذكرها على سبيل التوسع.
مثلث الاركان المحورية: كل فكرة لها مجموعة ملامح ركنية ومبدئية تحدد شكلها وموضوعها، فمجموع رؤوس المثلث المحورية تمثل قوام الجانب الشكلي للتعايش.
الانسانية: ومعنى ذلك ان يكون التعايش بين انسان وآخر نظيره بالانسانية ولا يمكن ان يتحقق تعايش بين انسان وحجر.
التعددية: حق طبيعي من المقتضيات الانسانية الفكرية او الدينية او المذهبية او العرقية او القبلية وغيرها من الجوانب الحياتية.
المواطنة: وتأتي المواطنة على صيغة «مفاعلة» الدالة على معنى المطاوعة والمشاركة بين اكثر من فرد، وهو المجتمع.
المبادئ الاساسية: وهي تمثل المنطلقات المشتركة العامة الضرورية التي تعمل على تغطية الجانب الموضوعي للتعايش التي يختل بها النظام لو تركت.
الحرية «عدم الاكراه».
العدل «اعطاء كل ذي حق حقه».
المساواة «عدم التمييز».
الامان «الاستقرار».
الاخلاق «احترام الآخر».
الامور الكمالية: وهي المستحبات والمندوبات العامة التي لا يختل بها الاصل الكلي لو ترك العمل بها.
التعاون على الخير.
الالتقاء في المسائل الاتفاقية.
معالجة المسائل الخلافية.
التقارب الحواري.
الاجتماع في المساجد ودور العبادة.
امكانية التناكح.
حضور الجنائز.
زيارة المرضى.
ولفت الى انه لابد لاي فكرة او مشروع اجتماعي او غيره من الاصعدة الحياتية ان يكون مبني على أساسين هما التخطيط والهدفية، والهدف هو الغاية المطلوب الوصول اليها، وفي هذا الصدد يوجد أكثر من هدف وغرض لفكرة التعايش السلمي، سنذكر أهمها على حسب الترتيب التسلسلي:
الرجوع الى الاصل: استنادا الى قوله تعالى (وما كان الناس الا أمة واحدة فاختلفوا) فعلى هذا الاساس القرآني كان الغرض الرئيسي المراد من فكرة التعايش السلمي هو الرجوع الى الاصل وتفعيله عند الاختلاف، فكان الناس امة واحدة من حيث الطبيعة الانسانية، ولكن اختلفوا من حيث الدين، كما ذكره المفسرون حول الاية.
وبالنظر الى هذا الاصل الذي أشار اليه القرآن الكريم في الاية جاءت فكرة تشريع الحقوق المدنية في الدول الدستورية من حيث ما تقتضيه الطبيعة الانسانية.
التفاعل الاجتماعي: والغرض الاخر هو استنادا الى قوله تعالى (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) «الحجرات 13» فما جاء به القرآن الكريم لا بمجرد كونه قرارا تشريعيا بل مقوما أساسيا لسنن الحياة البشرية، هو ايجاد علاقة تفاعل اجتماعي ايجابية تربط بين مختلف أفراد المجتمع الانساني، أو بين مجتمع وآخر لتكوين تصور مشترك لوحدتهم بدليل قوله تعالى (لتعارفوا).
ويعد التفاعل الاجتماعي شرطا أساسيا لتكوين التصور الوحدوي المشترك بين مختلف الافراد، لانه يسهم في تكوين السلوك العام لثقافة المجتمع وعاداته، وتقاليده، وقيمه.
الوسطية: طموحا للوصول الى أرقى الامم كما أشار في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) التي وصفها المولى بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
والوسطية في منظور الاسلام منهج أصيل ومفهوم جامع لمعاني العدل والخير والاستقامة، ومنهج الوسطية مسلك اعتدالي لا افراط فيه ولا تفريط، ويكون محلا لرضا وقبول الكل، فنظرية الوسطية شمولية حيث تستوعب جميع الاطراف دون تغليب لطرف على الآخر، لمحافظتها على حالة التوازن الاجتماعي حتى لا تتعارض مصالح الاكثرية مع مصالح الاقليات والافراد بصورة عامة.
افشاء السلام: جاء في الحديث النبوي: «أفلا أدلكم على شيء اذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (رواه مسلم).
فهذا الحديث فيه دلالة واضحة على الشمولية بدليل كلمة «أفشوا» وتعني لغويا الانتشار، بالاضافة الى أنها جاءت بصيغة الجمع الدالة على التعميم، ونفهم من توجيه مثل هذا الخطاب العام أنه يتعلق بالمجتمع بأكمله، وكلمة «بينكم» دالة على التعايش على نحو الحيثية التقييدية أي بشرط السلام، فالصدق في القضية موقوف على تحقق الحيثية التقييدية فلولاها لم تصدق قضية التعايش.
واعتبر ان من اهم موانع التعايش الآتي: التكفير: اسلوب التكفير من أخطر وأشد موانع التعايش، وعائق أمام تحقيق هذا المبدأ الحضاري، «لم أنته من تأليفه».
العصبية: ورد عن النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من دعا الى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» وجاء في قول الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة ان ابليس «امام المتعصبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية» حيث جاء في القرآن حكاية عن لسان ابليس: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
وبين الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام مفهوم العصبية بقوله: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم».
العنصرية: تعرف العنصرية بأنها موقف سلبي ظالم تجاه انسان آخر لمجرد انتماء هذا الانسان الى عرق خاص، وتثار عادة بين انسان ابيض واسود وقد كان مؤدى العنصرية تجارة بيع الرقيق السود، وقد رفض الاسلام مثل هذا الامر وشرع عتق الرقاب من الرق مقابل الثواب العظيم الى ان انتهت مثل هذه الظاهرة، وقد أشار الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة بقوله «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا» وكذلك مقولة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشهيرة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
الفئوية: المراد من مصطلح الفئوية في هذا الجانب معناها السلبي وهو التمحور والتقوقع حول الذات حيث تعيش الفئة في حالة عزلة اجتماعية مزمنة تعود بالسلب على نفسها ومحيطها، لسبب انها تتحاشى التفاعل مع محيطها الاجتماعي، على أساس تقديس الذات وتدنيس محيطها، وهي مأخوذة من فكرة «الشعب المختار» وأكد المحللون من علماء النفس الاجتماعي أن ايديولوجية «الشعب المختار» يمكن شرحها بعقدة النقص لدى قبيلة «يهوه» الذي يعود الى التعصب وعدم التسامح في التقاليد.
فهرس محتويات البحث
- 1- مقدمة تمهيدية.
- 2- تعريف مفردات التعايش لغويا واصطلاحيا.
- 3- فقه التعايش.
- 4- أركان التعايش.
- 5- أقسام التعايش.
- 6- أهداف التعايش.
- 7- موانع التعايش.
- 8- عرض الأدلة القرآنية.
- 9- عرض الأدلة الروائية.
- 10- عرض الأدلة العقلية.
- 11- استعراض تاريخي.
- 12- التعايش والوحدة.
- 13- التعايش والوطنية.
- 14- الخطاب الأميري أجلى مصداق للتعايش السلمي.
- 15- كلمة ختامية.
اعتراض على الأسلوب وليس المبدأ
اثار بعض الحضور تساؤلات حول البحوث المطروحة من قبل المحاضرين في مؤتمر رابطة علماء دول مجلس التعاون الخليجي الثاني المنظم من قبل وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالكويت بفندق كراون بلازا وكان احد التساؤلات التي وجهها د.بسام الشطي للمحاضر الباحث الاسلامي الشيخ راضي حبيب عن مسألة التكفير حيث اعتبرها احد اشد واخطر موانع التعايش السلمي، فكان تساؤل الشطي هل يعني ذلك إلغاء مسألة ثابتة في القرآن الكريم!، فأوضح الشيخ راضي حبيب قائلا: حتى لا تختلط الامور اننا تناولنا التكفير في معرض بحثنا من حيث الاعتراض على «اسلوب التكفير» ولم نعترض على اصل المسألة، وللايضاح اكثر فبالامكان ان نتناول مسألة التكفير بنحو الطرح العام من دون التعيين لمذهب او التخصيص بدين، وعلى سبيل المثال اذا تناولنا اصل التوحيد، وقلنا ان الله واحد احد بالذات، وان من معاني الشرك العقائدي القول بكثرة الآلهة، ولكن من دون تطبيق هذا الكلام على دين أو مذهب معين بذاته، وهذا ما قصدته في اعتراضي على اسلوب التكفير انه اخطر موانع التعايش السلمي.