بقلم
د.عبد الهادي العجمي
آثارنا هي ملك للأجيال الكويتية المتعاقبة وللإنسانية جمعاء، والمرتكز المرجعي في تنمية الإحساس بالانتماء للأرض وللوطن والأمة، وبالتالي تكريس حالة الشعور القومي بحب الوطن، ونحن في الجمعية التاريخية الكويتية ندعو الجميع مواطنين ومسؤولين للاهتمام بآثار الكويت وحمايتها من التعديات التي تحدث من قبل البعض عليها وأيضا إهمال المناطق الموجودة بها فقضية الحفاظ على التراث القومي لآثارنا بالكويت تتداخل ما بين خصوصية محلية تتشابك لتتحول إلى مهمة تجاه الموروث الحضاري لمنطقة الخليج العربي كله.
ونحن نؤكد على أهمية دراسة قضية الآثار بصورة أوضح ومنظور أعمق، يتأتي معها وضع الخطط المتكاملة للحفاظ على تلك الهوية التاريخية للدولة وليس علاجها بمعاول الهدم والتدمير ونتساءل لمصلحة من هذا العبث في تلك المناطق التاريخية وتلك المحاولات الهدامة التي تطمس تاريخنا وتدمر الإرث الحضاري لوطننا، فتراث حضارتنا «الكويتية» لا يمثل مرحلة تاريخية بعينها فقط، بل هو تراث حضاري سابق على التكوين الحديث للكويت وتالٍ له في الوقت نفسه، فهو جمع للتاريخ المادي والمعنوي منذ أقدم العصور إلى الآن، إنه تراث ثقافي كويتي أغنى من أن يحد بمرحلة حضارية واحدة، فمن وادي البطين «الباطن» وحوخس البركان، وأدرة، وكاظمة، والصليبخات، وجزر أم النمل، وعكاظ، وفيلكا، وأوراة، ينحدر إلينا تراث تاريخي ضخم شاهد على ثقافات إنسانية وحضارات متعددة ومختلفة تبلورت وعاشت في هذه الأرض الطيبة، بجانب حضارتنا العربية الإسلامية المتجذرة في أعماق أعماق تاريخنا الكويتي.
إن هذه التعديات التي تتم على آثار منطقة الصبية أحد أوجه العبث المتعمد لا للكويت فحسب بل لمنطقة الخليج العربي والإنسانية ككل، فالشعوب تفخر وتتباهي بآثارها الحضارية ولا يهم هنا ما يمكن أن يتبادر إلى بعض الأذهان من أن بعضها يمكن أن يكون ناتجا عن عدم المعرفة أو الجهل من قبل أولئك الذين يمارسونها فالنتيجة الحتمية هي ضياع هذا الموروث الحضاري والى الأبد فهذه التعديات تجاوز خطير على التاريخ والحضارة، خاصة لما لأثار تلك المنطقة من الدلالة التاريخية وما تحمله الصبية من قدم عميق وضارب الجذور فنحن بامتلاكنا وحفاظنا على تلك الآثار ندخل ضمن منظومة الدول ذات الثقل التاريخي العميق في المنطقة.
فلقد أثبتت الدراسات الأثرية أن هناك تواصلا حضاريا بين مراكز الاستيطان في مناطق الخليج العربي جنوبا، ومدن بلاد الرافدين شمالا، في فترة العبيد من خلال تبادل المواد التجارية مثل «الفخار والأحجار النادرة والأسلحة والصدف» ان انتشار العبيد الواسع كان له الأثر الكبير ليس فقط على التجارة بل شمل انتقال المعلومات والأفكار ولا شك أن الإنسان الذي عاش في منطقة الصبية كان يعيش حياة كريمة، كان يقتات من صيد السمك والقنص ويربي الأغنام والماعز والبقر، كما استطاع هذا الإنسان أن ينشئ حرفآ جديدة مثل عمل الخرز وصناعة الفخار الأحمر الخشن، ودلت بعض المعثورات على أن الإنسان العبيدي كان يمارس الصيد برا وبحرا.
فقد تركز صيده على الطيور وبعض الحيوانات البرية كالغزلان والخراف بالإضافة إلى صيد الأسماك؛ فكان يستخدم بعض أدوات الصيد والتي منها رؤوس السهام الصوانية لصيد الحيوانات البرية والطيور، صنارات من العظام مدببة الرأسين لصيد الأسماك، وقد عثر على أثقال وصنانير صيد الأسماك مشابهه لها في موقع رأس الحمراء - سلطنة عمان وهي تعود إلى نفس الفترة، وعلى الرغم من أن هذه الآثار محدودة إلا أنها تؤرخ لحقبة مهمة في سجل تاريخنا، فإن لم نعرف حقيقة الأثر ومنجز الحدث لن يكن لدينا صورة واضحة للعمق التاريخي له.
فأثار الكويت المكتشفة تثبت وتوثق في الوقت ذاته لحضارة امتدت وقامت عبر حقب مهمة من تاريخنا القديم والمطموس والاعتداء على تلك الآثار هو محاولة لتغيير تلك الثوابت التاريخية، وإيجاد شرخ بين المكان والزمان والفعل الحضاري وإلغاء حق المواطن في أن يري تراثه وثقافته مجسدة ملموسة.
وما يحدث في الصبية وغيرها تعد من قبل الإنسان، فلقد تجنب الزمان أن يؤثر على هذه الآثار إلي يومنا هذا ولكنننا أبينا إلا أن نغير ماضينا وأثارنا التاريخية بأيدينا، فإذا كان المقصود هو المردود المالي فإن تلك المواقع التاريخية لو تم استغلالها جيدا لأصبح لها مردود مالي جيد ذلك أن صناعة السياحة في معظم البلدان تبنى في الأساس على وجود المناطق الأثرية والآثار وعلى الحفاظ على العمران القديم ذي الخصائص النادرة، فهي في كثير من الدول كانت ولا تزال مصدرا اقتصاديا مهما، أما إذا كان المقصود طمس جزء من تاريخ الكويت فهذا ما نرفضه رفضا قاطعا، لذا ندعو الجميع، مختصين وجهات مسؤولة، للوقوف بحزم في وجه تلك التعديات على آثار الصبية.
إن ما يحدث في الصبية يعد استمرارا لطمس هوية وحضارة، فتلك الآثار الموجودة في الكويت والصبية على وجه الخصوص تعطي للكويت بعدا عميقا في التاريخ، وتكشف لنا عن جوانب مخفية في سجل حضارة الكويت القديمة، وإذا كان الهدف إقامة مشاريع تنموية فنحن على يقين من أن المحافظة على المناطق التاريخية وتطويرها لا يتعارض إطلاقا مع الخططوالمشاريع العمرانية الضخمة المرصودة لتطوير بعض المناطق في الدولة بل على العكس قد تكون تلك المناطق الأثرية عامل جذب مهم للكثير من المشاريع والبنى المعمارية وان تطوير هذه المناطق حضاريا يجعل من الكويت بلدا ذا ثقل تاريخي في المنطقة.
إن الجمعية التاريخية من منطلق حرصها على تنمية الوعي الثقافي والتاريخي تشكر الجهود التي يقوم بها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب خاصة ما يقوم به الأستاذ سلطان الدويش، كما أننا نؤيد أيضا بعض التصورات والاقتراحات الموضوعة من قبله وقبل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب للمحافظة تلك الآثار ومنها (المحافظة على المواقع الأثرية من خلال حمايتها عن طريق تسويرها، وضع حراسات من الشرطة حول مواقع الآثار، إبراز الجانب التاريخي والحضاري المفقود للكويت خلال الفترة من 5300 ق.م الى 1750 م وذلك من خلال الكشف الأثري، نشر الوعي الثقافي والحضاري لدى المواطنين، تشجيع مراقبي الآثار وإبراز دورهم في حماية التراث، إثراء متحف الكويت الوطني بالقطع ذات الدلالة الأثرية العميقة، إثراء حقل الآثار والتاريخ بالكويت بالدراسات المتخصصة في هذا المجال، أيضا إدراج أثارنا التاريخية ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي وعقد الاتفاقيات الدولية والمعاهدات لربطها بالمنظمات الدولية لحماية الآثار).
وها نحن نجدد دعوتنا للجميع ونؤكد على ضرورة تنمية وزرع الإدراك الوطني المسؤول تجاه الآثار وصونها وحمايتها من أي عبث أو تدمير باعتبارها ثروة وطنية، ومواجهة أي محاولة للعبث أو التدمير لها لأن هدم تلك الآثار والعبث في تلك المواقع التراثية يعني فقدان قيمتها التاريخية إلى الأبد، ذلك لأن تلك الآثار بنيت في حقب مختلفة مثلت في هذا الوقت بيئة خاصة لأناس وبشر عاشوا في كنف هذا المكان، ويجب أن يتحمل كل منا مسؤوليته، فالوطن «أمانة في عنق الجميع».
صفحات تاريخنا في ملف ( pdf )