بقلم: يوسف الشطي
الموت كالنار لا يُبقي ولا يذر
وعادة الدهر يعلو ثم ينحدر
ولا بقاء لشيء حاطه الأجل
حتى وإن بات دمع العين ينهمر
قد قيل صبراً على الأحداث إن نزلت
لكنما اليوم لا صبرٌ فأصطبر
وكيف أسمو بنفسي عن مواجعها
أم كيف يغفو بليل الشوق مضطجر
فموتك اليوم يا عماه أثقلني
سقماً عظيماً فذا نأي وذا كدر
فالجرح مندمل والدمع منهمل
والفرح مكتئب والعز منكسر
قد حرّق الدمعُ عيني ثم أحرقني
وليس يعمى على ما دونك البصر
وكيف أنجو بأحزان تنازعني
والموت حق فلا وزِرٌ ولا وزَرُ
لكنما الدهر أحيانا يشح بمن
كالناس خلقا ولكن دونه البشر
يا ليت شعري وهل تأتي المنون بمن
رغم المنايا له في مقلتي أثر
الموت يأخذ أعلى الخلق منقبة
تلك الحياة ففي أحداثها العبر
إني بلغت بوجدي فيك آخرتي
فها أنا اليوم حي بات يحتضر
إني أحبك حبا لو أفرقه
على الكواكب والأفلاك تزدهر
فأنت كالشمس إجلالا إذا برزت
وأنت سيف يُحقُ الحقَ مقتدر
وأنت كالنجم لا ند ولا عدد
وأنت لم تأت فعلا دونه بطر
فكيف للحد أن يحنو عليك غدا
والموت كالنار لا يبقي ولا يذر
وقدم الأستاذ الدكتور في النقد والأدب العربي الحديث د.زين العابدين أحمد محمود قراءة تحليلية في هذه القصيدة، تحت عنوان «جدليَّةُ الغيابِ والحضور.. قراءةٌ في مرثيَّةِ يوسف الشَّطي» قال فيها:
إن قصيدة الشاعر «يوسف الشَّطي» والتي يرثي فيها عمَّه الذي غيَّبه الموتُ فجأةً فتمزَّقتِ النفسُ بينَ ثنائيَّاتٍ عديدة شكَّلت بنية القصيدة وعزَّزت بنيتها الجمالية والفكريَّة، هي حالةٌ تنفتحُ فيها الروحُ على عوالم متقابلة متصارعة تشكِّلُ بنياتٍ ثنائية تتكئ عليها القصيدة فتحرّك سواكنها وتؤجج لبناتها.
اختارَ الشاعر لمرثيَّته وزنَ بحر «البسيط» ( مستفعلن فاعلن) تفعيلتان ثنائيان في كل شطر وكأنَّهما صوتانِ ناعيان وأيقونةً للغة الحزن والفقد. واعتمدَ الشاعرُ على حرف «الراء» بطبيعته الصاخبة وجلبته الاهتزازية ليؤطِّر مراحل التجربة، وكأنَّه يجاهدُ ليزيحَ جسدَ الموتِ المرخَّى على روحهِ باستدعاءِ الفرح وهو الحرف الذي يشكِّل أيقونةَ الفرح والابتهاج بالحياة عندما تطلقُ النساءُ أصوات «الزغاريد». لقد أحسنَ الشاعر اختيار حرفَ قافيته «الرَّاء» ليراوح بينَ الثنائيات المتقابلة في تجربته والتي أبرزها ثنائية: الحياة والموت ـ الحضور والغياب ـ العطاء والاستلاب.
يبدأ الشَّطِّي مرثيته بالحكمة التي ترسِّخها عقيدته الإيمانية الإسلاميَّة المقرَّة بحتميَّة الموتُ ودوريَّته اللازمة، مؤكِّداً حتميَّته ومصوراً فاجعته من خلال الجملة الخبرية القائمة على دلالة التأكيد والتقرير، وعلى جناحيها يثورُ حزنُ التصوير من خلال التشبيه:
الموتُ كالنَّارِ لا يُبقي ولا يذر
وعادةُ الدَّهر يعلو ثمَّ ينحدِر
يفتتحُ الشاعر مرثيته بدوال الفقد؛ حيث تتصدر أيقونةُ «الموت» صدرَ الجملة الاسمية وتتصاعد دوال الاستلاب حينَ ترتمي الجملة في أتون التشبيه المستعر الذي يلتهم كلَّ شيء ويغيّب الحاضر في غياهب التلاشي عندَ درجة الصفر، ونرى الموتَ يبسطُ رداءه على القصيدة من بدايتها إلى نهايتها في متوالية دالَّية محتشدة بصراع الدوال بين الغياب والحضور، في لغة في بنيتها النحوية تعتمد على الإخبار الذي يخرج بالتقريرية عن رتابتها ويشحنها بأقصى طاقات الإيحاء والإشارية المؤججة. في هذه المرثيَّةُ تتجسَّدُ المعاناةُ عن طريق الحشد اللفظي والتركيبي لدوال/ مفردات الموت - الموت - النار لا يبقي - لا يذر - لا بقاء - دمع - مواجعها - مضطجر - سقماً - الجرح - منهمل - الدمع أحرقني - المنايا... إلخ.
يمزجُ الشاعر بينَ التصوير والواقعي لتشكيل قصيدته فنراه يجنحُ إلى الخيال الذي يستطيعُ الشَّاعر من خلال طاقاته الإيحائية أنْ يطلقَ آهاته في براح ساحاته الرحبة فيحاصرنا صوتهُ وتغمرنا دموعه السَّخيَة:
قد حرقَ الدَّمعُ عيني ثمّ أحرقني
يبرعُ «الشَّطي» في استخدام تقنية التدوير؛ حيثُ يلفُّ القصيدة/الحالة/ الرؤية في أكفانِ الموتِ كدورة الوجودِ والحياة مؤطراً حالته/ قصيدته ومسيجها بسياج الموت مِن مبتدئها إلى منتهاها لتتشكّل صورته الشعرية من خيوط جدلية/ صراع ثنائيات ضدية قادرة على إثارة الوجدان وتحريك الساكن وشحن الراكد بطاقات المقاربة ومباشرة اللغة وثراء الصورة الشعرية، فتقوى القصيدة على الانتحاب في كفِّ الرضا واليقين بحتمية الموتِ علَّ الروحَ تجدُ في هذه الدفقة الشعورية القوية تسريةً وتصبُّرا.