امام تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم يقف العقل مبهوتا مشدوها، يتأمل الآيات الآلهية التي تجلى بها.. لتكون عونا لهم على نشر دين الله، ومحو الجاهلية من العقول الراسخة في اغلالها، فمن الصحابة من جعل الله آيته في رؤية الملائكة وهي تضرب الكفار بالسياط في ميدان القتال مثل ابي طلحة.. ومنهم من كانت له آية في رؤية الملائكة وهي كالظلة فوق بيته تستمع اليه في اثناء تلاوته القرآن مثل اسيد بن الحضير ومنهم من جعلت له آية في نزول الغيث اذا رفع يديه الى السماء ودعا الله ان ينزل المطر مثل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من جعل آيته في تحويل عصاه الى مصباح يضيء له الطريق في الليلة الظلماء مثل طفيل الدوسي، ومنهم من جعل آيته في ارسال الطعام اليه وهو في غرفة موصدة سجنه فيها الاعداء مثل خباب بن الارت، ومنهم من جعل آيته في ان تغسله الملائكة مثل حنظلة بن ابي عامر.
دعوته لاهله
اما كيف اسلم هؤلاء الوثنيون بعد مكابرة وعناد فإن صدى بن عجلان وكنيته ابو امامة، ذهب اليهم ليدعوهم الى الله عز وجل ويعرض عليهم شرائع الاسلام ويحكي ابو امامة ما حدث له مع أهله وقومه فيقول: لقد اتيتهم وقد سقوا ابلهم وحلبوها وشربوا فلما رأوني قالوا مرحبا بالصدى بن عجلان، بلغنا انك صبوت وأتبعت هذا الرجل فقلت لهم: لا ولكنني امنت بالله ورسوله، وبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم اليكم لأعرض عليكم الاسلام وشرائعه. وبينما نحن كذلك اذ جاءوا بقصعتهم فوضعوها واجتمعوا حولها وكانت ممتلئة بالدم وقالوا: هلم يا صدى، فقلت لهم: ويحكم: انما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم الا ما ذكيتم كما انزل الله: وقال قلت: نزلت هذه الآية الكريمة في المحرمات: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع الا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب وان تستقسموا بالأزلام).
منامه
ثم جعلت أدعوهم الى الاسلام وهم يأبون، فقلت لهم: ويحكم آتوني بشربة من ماء فإني شديد العطش، فقالوا لا: ولكن ندعك تموت عطشا، فضربت رأسي في العمامة ونمت في الرمضاء في حر شديد، وتركتهم يأكلون الدم، فأتاني آت في منامي باناء من زجاج لم ير الناس احسن منه، وفيه شراب لم ير الناس افضل منه، فأخذته وشربته، فشبعت ورويت ولما فرغت من شرابي استيقظت، فوالله ما عطشت بعد ذلك ابدا، واذ انا في هذه الحالة من الشبع والري، قال لهم رجل منهم، اتاكم رجل من سراة قومكم، فأتوني بلبن، فقلت لهم: لا حاجة لي به، ثم اريتهم بطني فأسلموا على اخرهم ولندع قوم باهلة الذين اراهم الله آية في واحد منهم فتركوا وثنيتهم، واقبلوا على الاسلام بقلوب رفافة نحو النور والطهر، ولنعش مع ابي امامة في سموه الروحي، وطهارته الوجدانية، وصفائه النفسي، لقد كان واحدا لمن اولئك الذين اصطفاهم الاسلام لحمل مشاعله، فراح يتعلم على يد الرسول صلى الله عليه وسلم ويطبق ما يتعلمه بكل امانة والتزام.
مكانته
سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ان الله جعل السلام تحية لأمتنا وامانا لاهل ذمتنا، فكان ابو امامة يسلم على كل من لقيه، فلا يمر على احد سواء كان مسلما او غير مسلم صغيرا او كبيرا الا قال: سلام عليكم، سلام عليكم ولم يسبقه احد بالسلام الا مرة واحدة.. حيث اختبأ يهودي خلف شجرة ثم خرج فجأة وسلم عليه، فقال له ابو امامة: ويحك يا يهودي ما حملك على ما صنعت؟ فقال له اليهودي: رأيت رجلا يكثر السلام، فعلمت انه فضل، فأردت ان آخذ به، فقال له ابو امامة ان هذا من ادب الاسلام الذي تعلمناه من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما تعلمه ابو امامة من الرسول ايضا: البر بالوالدين، وقد حدث ان كانت ام ابي امامة مريضة والنبي يتجهز لعزوة بدر، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بمرضها، فطلب الى ابي امامة ان يبقى بجوار امه يرعاها، لان رعاية الوالدين لا تقل اجرا عن الجهاد في سبيل الله، وبالفعل بقي ابو امامة بالمدينة وماتت امه اثناء المعركة، ولما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعاد الى المدينة زار قبرها وترحم عليها.
يوم الحديبية
ولقد كان ابو امامة ممن بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة ولذلك فإنه عندما نزل قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم واثابهم فتحا قريبا)، قال ابو امامة يا رسول الله، انا ممن بايعك تحت الشجرة فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم انت مني وانا منك وكان ابو امامة منهوما بالعلم، شغوفا بالمعرفة، ما ان يسمع كلمة من رسول الله الا ويحفظها عن ظهر قلب، ولما سئل عن سر تفضيله للعلم على العبادة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان احدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضل العالم على العابد كفضلي على ادناكم، ان الله وملائكته واهل السموات حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير، ثم تلا هذه الآية، (انما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ). ومن الخصال التي اشتهر بها ابو امامة الباهلي، الصبر وكتمان المصيبة وعدم الشكوى للناس، والشكر على النعمة، كان صبارا شكورا يتسع قلبه لهموم اثقل من الجبال ولكنه يحتملها بايمان لانها مقدرة عليه، ولم تكن الدنيا تساوي عنده شيئا.