عظمة هذا الصحابي الجليل في انه كان من أشجع فرسان المسلمين قلبا ولسانا.. إذا نادى منادي الجهاد سارع الى المعركة، وخاض أهوالها، وأتى من أعمال البطولة والفداء ما يشبه الأساطير.. وإذا عرض موقف يتطلب الفصل فيه برأي شجاع، صدع بكلمة الحق دون مواربة أو مواراة، حتي ولو علم ان فيها حتفه ومصرعه.. على حد السيف.. ولهذا كان مهيب الجانب، لا يضمه مجلس إلا وكان مسموع الكلمة، جليل المكانة، مما جعل الكثير من أهل الكوفة يتخذون منه زعيما، لأنه أشدهم جرأة في الحق، وأسرعهم الى المجاهرة بالكلمة الصادقة. وكان الى جانب هذا صواما قواما حاجا معتمرا، إذا صلى يطيل في الصلاة، وترتعد فرائصه من خشية الله وكأنه قادم على الموت في التو واللحظة، ومقبل على نشر صحائفه وحسابه بين يدي الله عز وجل.
وكان حجر بن عدي الكندي أسلم هو وأخوه هانئ على يدي رسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن إلا متوضئا على الدوام.. إذا أحدث توضأ وصلى ركعتين، كما كان بارا بأمه، زاهدا في متاعها، مع انه سليل بيت من أشراف كندة وسراتهم، وقد كان له في معركة القادسية موقف سيظل يضعه التاريخ في أعلى ذروة من ذرى الشجاعة، ذلك ان المسلمين بعد ان هزموا الفرس في حرب الأيام الأربعة التي سبقت الاستيلاء على المدائن عاصمة كسرى كان عليهم ان يعبروا نهر دجلة دون ان تكون لديهم سفن، وكان الفرس رابضين بسفنهم في الشاطئ الآخر لا يتصورون ان المسلمين سيعبرون اليهم لأن في عملية العبور مغامرة محفوفة بالأخطار. غير انه عندما نادى سعد بن أبي وقاص وكان قائد الجيش من منكم يعبر الى الأعاجم هذه المخاضة، يعني دجلة، تقدم حجر بن عدي بفرسه، وتلا قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا).. ثم اقتحم النهر، واقتحم وراءه المسلمون.. والأعاجم في ذهول مما يرون، ويصيحون، ديوانا.. ديوانا.. أي مجانين.. مجانين! وقالوا: والله ما نقاتل إنسا.. بل نقاتل جنا.. ودفعوا بفرسان منهم في الماء ليمنعوا وصول المسلمين، ويحبطوا عملية العبور.. ولكن المسلمين كانوا أشد بأسا.. فهزموا الأعاجم في النهر.. كما هزموهم في البر.
وعلى طريق الجهاد يمضي حجر الكندي فيفتح برج عذراء بالشام ويشهد مع الإمام علي بن أبي طالب موقعتي الجمل وصفين، ويبدي من ضروب الشجاعة ما جعل اسمه يتردد على كل لسان في إعجاب وإجلال.
وبعد ان استشهد الإمام علي في الكوفة، وأصبحت مقاليد أمور المسلمين في يدي معاوية بن أبي سفيان وبني أمية لم يتوقف حجر بن عدي عن الجهاد ولكن بالرأي الجهير، وكلمة الحق التي كانت تتلجلج على ألسنة الناس، خوفا من الحكم الباطش، والمحاكمات الظالمة، وكان المغيرة بن شعبة والى الكوفة، فكان إذا ذكر الإمام علي تنقص من قدره، ما أثار حفيظة عدي عليه، فقال له يوما، وهو يخطب على المنبر: أيها الإنسان. مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنك قد حبستها عنا، وليس ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك.. وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين. عندئذ قام ثلثا من بالمسجد وقالوا: صدق والله حجر وبرّ.. مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنا لا ننتفع بقولك هذا، ولا يجدي علينا شيئا. نزل المغيرة عن المنبر ودخل قصر الإمارة، ودخل معه جمهور الأمراء، وأشاروا عيه بردع حجر، فقال انني قد اقترب أجلي وضعف عملي، ولا أحب ان ابتدئ هذا المصر بقتل خيارهم، وسفك دمائهم، فيعز في الدنيا معاوية، ويذل يوم القيامة المغيرة.. ولكني قابل من مسيئهم، وعاف عن سيئهم، وواعظ سفيههم حتي يفرق بيني وبينهم الموت.
كانت الفترة التي تولى فيها المغيرة أمر المسلمين بالكوفة 10 سنوات، من سنة إحدى وأربعين الى سنة إحدى وخمسين هجرية، ثم توفي، وجمع أمر الكوفة والبصرة لزياد بن أبي سفيان وكانت أول خطبة لزياد بالكوفة تتضمن فضل عثمان بن عفان وذم من قتله أو أعان على قتله، فقام حجر كما كان يقوم في أيام المغيرة، وتكلم منتقدا مهاجما سياسة بني أمية.. فلم يرد زياد عليه، ولكنه أراد ان يأخذه معه الى البصرة، حتى لا يثير الناس في الكوفة على بني أمية، إلا ان حجر بن عدي اعتذر بأنه مريض.. ورفض ان يغادر الكوفة.
أناب زياد بن أبي سفيان عمرو بن حريث على الكوفة، وعاد الى البصرة، ولكن ابن حريث لم ينعم بالهدوء والاستقرار لأن حجر بن عدي كان لا يكف عن مهاجمة سياسة الأمويين، ما جعل ابن حريث يبعث الى زياد يطلب منه الحضور الى الكوفة.. وبالفعل حضر على عجل، وأخذ صورة كاملة عن الموقف المتأزم، فلم يعد حجر بن عدي هو وحده الذي يعلن رفضه لسياسة بني أمية، وانما انحاز اليه الكثيرون من أهل الكوفة يرون رأيه، ويؤازرون اتجاهه، وهنا حاول زياد بالتهديد والوعيد ان يعيد الهدوء الى الكوفة، إلا انه أخفق تماما مما دفعه الى الاستعانة بمعاوية ليستطلع رأيه، وكان رأي معاوية ان يقوم زياد بالقبض على عدي ويرسله اليه في الشام، وان يقبض أيضا على أعوانه، حتى تدفن المعارضة الى الأبد.
تم القبض على حجر وأعوانه بعد مقاومة عنيفة، وأرسلوهم الى مرج عذراء المكان الذي افتتحه حجر وهناك علم حجر وأعوانه ان زيادا أشهد عليهم عددا من أهل الكوفة بأنهم يسبون الخليفة، وان الخليفة أمر بقتلهم.. وحين حانت لحظة تنفيذ الحكم قال حجر: دعوني أتوضأ وأصلي ركعتين، ثم صلي ركعتين خفيفتين.. وقال: والله ما صليت صلاة قط أقصر منها.. ولوا ان تروا ان مابي جزع من الموت لأحببت ان استكثر منها.. ثم قال: اللهم إنا نستعديك على أمتنا.. فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا.
ولما تقدم منه السياف ليقتله، ارتعدت خصائل شعره، فقال له: زعمت انك لا تجزع من الموت! فقال: كيف لا أجزع، وأنا أرى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا!. وكان رجال معاوية قد حفروا قبور الذين تقرر قتلهم وأحضروا أكفانهم.. ثم قتلوا حجرا وخمسة آخرين!
أحدث قتل حجر ضجة في الجزيرة العربية، وقوبل نبأ قتله بالحزن الشديد، حتى ان ابن عمر أخذ ينتحب بصوت عال.. كما ان السيدة عائشة كانت قد حاولت منع قتل حجر، وذلك بأن أرسلت رسولا الى معاوية يطلب اليه العفو عنه، فوصل الرسول بعد عملية القتل.
ولكن السيدة عائشة لم تنس هذا الحادث الأليم.. فعندما ذهب معاوية لأداء فريضة الحج، واستأذن على السيدة عائشة لزيارتها أذنت له، وراحت توجه إليه لوما شديدا على ما فعل بحجر، وتقول له: إنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقتل بعدي أناس يغضب الله لهم وأهل السماء».
وحين حضرت معاوية الوفاة كان يردد وهو يحتضر: يومي طويل مع حجر عند الحساب.. وقد دفن حجر في ثيابه التي قتل فيها ولم يغسل دمه تلبية لرغبته.. وغضب لقتله أهل السماء، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.