يخبر الله تعالى عن إنعامه وامتنانه وإكرامه في حق العصاة المؤمنين بقوله (ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا ان ربك من بعدها لغفور رحيم) أي ان من تاب منهم تاب عليه الله. قال بعض السلف: كل من عصى الله فهو جاهل، فإن تابوا وأقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات فان ربك من بعدها لغفور رحيم.
ثم ضرب الله مثلا بإيمان المتقين وقدوة المؤمنين وقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله ابراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) الأمة هو الإمام الذي يقتدى به والقانت هو الخاشع المطيع والحنيف المنحرف قصدا عن الشرك الى التوحيد ولهذا قال: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وصفه الله تعالى بثلاث صفات انه كان أمة وحده أي مؤمنا وحده والناس كلهم اذ ذاك كفار وانه كان مطيعا لله، ولم يك من المشركين.
(شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قائما يشكر نعم الله عليه، اختاره الله واصطفاه ثم هداه الى صراط مستقيم وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضٍ، هداية البيان، بيّن له الحق والثبات عليه (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ) أي كل ما يطيب العيش فيها جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في اكمال حياته الطيبة (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) فمن كمال وعظمة وصحة توحيده انا اوحينا اليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بعد ان بين تعالى أئمة التوحيد انكر الله على اليهود ما كان منهم وما وقعوا فيه من جرائم كثيرة ومن أقبح جرائمهم الجدال وهو مناف لخلق الاسلام حيث جادلوا أنبياءهم في كل شيء وحتى في فضائل الأحكام ومنها ما شرعه الله تعالى في كل ملة، يوم من الاسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة فشرع تعالى لهم يوم الجمعة فاختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من المخلوقات حيث كمل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة ووصاهم بأن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم باتباع محمد ژ قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
يقول تعالى آمرا رسوله محمد ژ ان يدعو الخلق الى الله تعالى بالحكمة ـ أي تقدير الأفعال بحسب المواقف وكلمة الحكمة اللجام الذي يلجم به الخيل ـ في أقواله وأفعاله طبقا لكتاب الله وسنة رسوله ژ والموعظة الحسنة ترقق قلوب الناس فنرغبهم مرة ونرهبهم مرة ليحذر الناس بأس الله تعالى (وجادلهم) أي من احتاج منهم الى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن وبرفق ولين وحسن خطاب، والجدال ليس منهيا عنه لأنه جدال علم وارشاد.
وبعد ان بيّن تعالى لنبيه كيفية الدعوة أعفاه من مسؤولية نتيجة التبليغ، وفي النهاية (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق أي ان اخذ منكم أحد شيئا فخذوا مثله، وكلمة الصابرين ذكرها الله تعالى وقد تكون مخفية، أي إظهار ما حقه الاخبار، وقال البعض ان الآية مدنية نزلت بعد غزوة أحد بعد ان مثّل الكافرون بحمزة ÿ وبسبعين من الصحابة والراجح ان السورة كلها مكية، وقوله تعالى: (إن عاقبتم.. إلى آخر السورة) هذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) تأكيدا للأمر بالصبر واخبار بأن ذلك لا ينال الا بمشيئة الله وإعانته وحوله وقوته.
(ولا تحزن عليهم) أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك ولا تك في غم وضيق ممن يجهدون أنفسهم في عداوتك وايصال الشر اليك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك بهم (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)، أي معهم بتأييده ونصره وهديه، وهذه معية خاصة للمؤمنين لا يعرفها إلا أهل الإيمان، فاعرف ايها المؤمن ان ربك معك اذا حققت التقوى في حياتك (والذين هم محسنون) الإحسان مرتبته عالية دعانا الله لها والجنة درجات، فهؤلاء الله يحفظهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم.
«عمدة التفاسير»