- كيف يصرح إنسان
-
ويعـتـــرف بأنــه لـيـــس
- وطنياً.. في الوقت الذي باتت فيه عبارة
- «أنــا وطنــي» الحصــن الـذي
-
يحتـمـي بـــه الإنســــان؟
- إذا انفتحـت لــك أرجاء الوطن.. فاضـــرب عصاك
- في عرضها وارتحل وحلّ حيث يطيب لك أن تحلّ
- لـم نطوّر بيوتنــا.. بــل طويناها ونسفناها وردمناها
- في حفر النسيان غير مأسوف عليها.. لنحلّ فـي هـذه
بع قدميك واشتر وطناً
قال: أنا لست وطنيا.. أنا إنساني.
يا لها من عبارة كاملة بالغة عاقلة متزنة موضوعية علمية شفافة عميقة..
وفي نصفها الأول، كم هي صادقة.. كأنها القنبلة الذرية حين تنفجر في قلب واحد..
هكذا.. صدمني نصفها الأول، حين نطق بها لسان قائلها: أنا لست وطنيا..
> > >
كيف يصرح انسان ويعترف بأنه ليس وطنيا.. في الوقت الذي باتت فيه عبارة «أنا وطني» الحصن الذي يحتمي به الانسان ويتحصن من عاديات الزمان.. ويتكسب ويتعيش.. ويرتدي ويخلع.. ويتغدى وطنا ويتعشى وطنية.
كلهم وطنيون.. القاتل والمقتول..
والكاذب والمكذوب.
والقاذف والمقذوف.
والراجم والمرجوم.
واللاعن والملعون.
فكيف يخرج من يجرؤ على القول: أنا لست وطنيا..!!
الناس تبيع أقدامها.. وتشتري وطنا.
ترهن أبناءها.. وتتبنى وطنا.
حتى الحرائر.. تأكل بأثدائها.. لتتزين بالوطنية.
فكيف يا هذا.. تبيع وطنا.. وترهن وطنك.. تتبرأ من ذلك الرداء الذي تردأت وتردت وتدثرت به الخاطئة والماجنة والممسوسة والملموسة والمحسوسة والموطوءة.. والبلاسون والطساسون والغلف قلوبهم.. والعالقون والمتعلقون وكتبة القرن الحادي والعشرين والمتصحفون من ذوات الأربع، والاربع والاربعين، وسراق الوطن في واضحة النهار، وهم الفريق الأكبر من ادعياء الوطنية.
> > >
والوطن.. ما الوطن..
وطني.. اصغر من انسانيتي.. وطني يد في جسد.. كف في يد.. اصبع في كف.. وظفر في اصبع.
انسانيتي بدن كامل.. ذلك هو وطني.
كم انا جميل بمثل هذا الوطن.
هذه الورود في حدائق الارض كلها.. هي ورودي.
وهذي البحار.. بحاري.
وتلك الجبال.
والروابي.. والسفوح.. والثمار.
والخراب.. أيضا، والدمار والدماء، والجوع.. والأنين.
السود أهلي.. والبيض.
الصفر.. والحمر.
قبيلتي كبيرة كبيرة، تضم الاعراق كلها.. ولا تجري فحص dna لمنتسبيها.
كل أب.. أبي.
وكل أم.. هي أمي.
هذه أختي.
وهذا.. أخي.
عمومتي.. وخؤولتي.. متفرقون على البيوت كلها.
البيوت كلها.. بيتي.
وكل لقمة.. لي منها نصيب.
> > >
ما أحلى الوطن الانسان.
ما أجمل الوطن القلب.
ما أكبر الوطن حين ينبسط ويتمدد على الكرة الأرضية كلها.
> > >
في ذلك الوطن.. نكون كلنا.. وطنيين.
ذلك الوطن غير قابل للخيانة.
في ذلك الوطن.. تخرس ألسنة باعة الوطنية ومشتريها.
ذلك وطن لا يرتشي.. ولا يرشو.
لا جوع فيه ولا مسغبة.
وطن.. لا يرهن.. ولا يحتل،، ولا تسفك فيه دماء.
لا لغو فيه ولا صخب.. ولا خطب تطلب وده.. وتبيعه في السر.. وتشتريه في العلن.
وطن للنجوم المتقاعدات من مشقة الضوء في السماء.
وللقمر الراشي نجماته ببصيص من ضوء قرمزي.
وطن للشمس.. وللكائنات كلها.. تحبه بصمت ولا تجاهر بحبه.. خشية التملق والاتهام بالمتاجرة.
> > >
الوطنية.. ومثلها القومية.. باتت من مخلفات الفكر القبلي الضيق.
اذا انفتحت لك ارجاء الأرض.. فاضرب عصاك في عرضها وارتحل وحل حيث يطيب لك ان تحل.. وأنخ راحلتك واعقلها.. ثم اذبحها ووزع لحومها على كل عابر سبيل.
بع وطنك الصغير.. بكثير من الحب لوطنك الكلي.
الدنيا.. وطننا الكبير.
والأرض.. بيت لا سقف له.. فاجعل منها بيتك.. وارجم كل من قال: أنا وطني.
انهم يكذبون.. فلا تكن أنت من الكاذبين.
مسافات
بيني وبينه مسافة من ألم..
وبيني وبين الألم مسافة من شوك..
وبيني وبين الشوك.. مسافة من ضباب..
وبيني وبين الضباب.. مسافة من شك..
وبيني وبين الشك.. مسافة من نفسي..
وبيني وبين نفسي.. مسافة من الآخرين..
لزمن كنا فيه.. كويتيين
عرفته عيناي.. وسارت في باحته قدماي.. واختزنت ذاكرتي، بيتنا القديم.
ابن البيئة.. المنسوج من ترابها وينز رائحته حين تبلل أرضه وجدرانه زخات المطر..
قدّر لي ان اعيش في ثلاثة من تلك البيوت الكويتية القديمة..
أولها.. حين ولدت في الحي القبلي من المدينة.. قريبا من المدرسة القبلية للبنات ويبعد عنها خطوات من ناحية الجنوب..
والثاني.. وأنا طفل في منطقة الصالحية.. والتي كانت منطقة جديدة ـ آنذاك ـ عام 1950.
والثالث في مراحل طفولتي الأخيرة ومطلع صباي.. ثم شبابي.. وكان في منطقة «حولي» والتي كانت عام 1955 قرية تصفر فيها الرياح وتعصف ببيوتها المتواضعة..
> > >
المراد من هذا الحديث.. ليس تقليب الذكريات على جمر التحسر.. واستحلاب الزمن الذي فات ومات.. بل القصد هو التطرق للمعمار الكويتي القديم، واسترجاع صورته البسيطة والعملية والتي كانت تحقق لساكنيه ما يريدونه من معنى السكن والسكينة وتآلف القلوب وتجانس الارواح، دون زيادة فاحشة وبطر ظاهر.. مثلما يحدث ـ الآن ـ في بيوتنا الحديثة، والتي هي في الحقيقة ليست بيوتنا، بل بيوت طائرة، طارت من أماكنها البعيدة لتنغرس فجأة في أحيائنا ومناطقنا.
هي ليست بيوتنا.. من حيث انها لا تشبهنا.. وليست مجبولة من طين بيئتنا.. ولم تتحل بتراب وطننا.
انها قلاع محصنة ضد كل شيء.. حتى النور والهواء.
>>>
في نهاية خمسينيات القرن العشرين انقلب حال المنزل الكويتي ورويدا رويدا حل الجديد محل القديم.
جرفت الجرافات بيوتنا القديمة.. انتهكت بساطتها ولم ترحم ضعفها ولم تصغ لأناتها.
وفجأة انزرعت تلك البيوت الـ «بلا قلب» ولا روح ولا دفء.
أحسسنا فجأة أننا غرباء في بلادنا.. لأن البيوت هذه ليست هي البيوت التي اعتدنا سكناها.. وُلدنا فيها وتربينا وتعلمنا ولعبنا في طرقاتها و«سكيكها» وعفّرنا ترابها.
هذا هو «الليوان» تلك الشرفة الارضية الجميلة المتصلة بالفناء المفتوح والمرتفعة عنه بدرجة أو اثنتين.. والغرف منثورة على شكل دائري أو مربع ومتصلة ببعضها.
و«الحوش» أو فناء المنزل وهو النقطة المركزية للبيت مفتوح يستقبل الهواء ونور الشمس وضوء القمر ويوزعها بالتساوي على الساكنين.
وفي ليالي الصيف.. السطح هو المصيف الذي ننتقل اليه ليلا طمعا في نسمة صيفية رحيمة بتلك الاجساد المكدودة.
تكدّ النساء قبل ديك الفجر وبزوغ الشمس.. بين عجن وخبز وحلب ونار من حطب تُنضج الطبخ لأفواه تنتظر الزاد.
ورجال يودعون أهل بيتهم في العتمة.. ساعية أقدامهم في مناكب الارض بحثا عن رزق اليوم الذي يعيشونه.. وقد لا يجدونه ولا يحصدون الا الخواء في يومهم ذاك.
وأطفال تتوزعهم الاتربة.. وتنطح أقدامَهم العارية نتوءاتُ الصخر فـ «تكلمها».
تلك الاجساد.. تستروح في الليل نسمة من هواء كثيرا ما يضن ويشح ويبخل.
فإن جاء الهواء بنسائمه فالنوم سلطان لا يفيق.. وإلا فإن الرطوبة بحيرة على الفراش الممدد تحت السماء.. ولكن نوم الكدادين سلطان في كل الاحوال.. حتى على بحيرة الندى والرطوبة.
>>>
جرفنا ذلك الماضي كله.. بحفنة روبيات ثم برزم من دنانير لا قلب لها.. ولا دمع في عينيها.
لم نطور بيوتنا، بل طويناها ونسفناها وردمناها في حفر النسيان غير مأسوف عليها.. لنحل في هذه البيوت التي وفرت لنا كل شيء.. إلا معنى السكينة.
ماذا لو اننا حافظنا على طرازنا المعماري القديم مستفيدين من كل التقنيات الحديثة ومستلزمات المسكن الحديث.. من برودة ودفء وماء جار.. وأجهزة اتصالات؟
لم يقل أحد لآبائنا أو يُشرْ عليهم بذلك.. بل قالوا لهم تباهوا بنعمكم الحديثة.. وبأموال النفط.. وعمّروا القلاع وتحصنوا بها.. ولم يقل لهم احد «اخشوشنوا» ـ كما أنتم ـ فإن النعم لا تدوم!
عدد غرف المنزل الحديث يفوق عدد سكانه.. وكل فرد مستقل في جناحه.. يعيش حياته مستقلا دون الفة مع أهل بيته.. حتى ان أهل البيت الواحد تمر عليهم أيام دون أن يرى الأخ أخاه، أو ترى الأم ابنها، أو يرى الاب ابنته، يعيشون في جزر معزولة جفت قنواتها.
صلة الوصل الوحيدة بينهم هو «الانتركم» أو «الموبايل» وخادم هنا وخادمة هناك، وطباخ يطبخ وسائق يسوق، والسيارات كالنمل أمام البيوت.
> > >
أينما أقلتنا ذوات الاجنحة.. إن في شرق أو غرب أو شمال أو جنوب.. نجد متعتنا حيث البيوت العتيقة.. بنات بيئتها والمتصلة ـ مازالت ـ بالعصر الحديث حيث أهلها مازالوا يعيشون فيها متوارثيها جيلا في اثر جيل ومنذ مئات السنين.. لم يتركوها للريح تسكنها ولا للأفاعي والعقارب تفرخ فيها سمومها.. ولم تقل لهم حكوماتهم «دعوها فإنها منتنة» وانها رجس من عمل الاجداد.. ورمز للفقر والفاقة والجوع والعوز.
عندنا.. حدث ذلك.
نثروا الدراهم أمام عيون آبائنا وقالوا لهم ارحلوا.. إنا بحاجة الى بيوتكم فالمدنية.. قادمة.. عَدْوا وركضا.. لا زحفا ولا حبوا.
هنا.. مدرسة.
وهنا.. شارع.
وهنا.. مستشفى.
وهنا.. سوق.
وهنا..
وهنا..
ولكن لا هنا.. ولا هناك سوى الوهن.
باتت بيوتنا القديمة داخل المدينة.. أطلالا.. وهياكل.. ذكرى لزمن كنا فيه.. كويتيين.